مقالات وآراء

مصباح العلي يكتب: لينا طبّال.. الصلبة في زمن الخنوع

في زمن يزدحم بأسماء عابرة وشعارات فارغة، تبرز لينا طبّال كحالة خاصة: محامية، أستاذة جامعية، ومناضلة جعلت من الدفاع عن الحق قدراً شخصياً. هي ابنة طرابلس التي حملت فلسطين في وجدانها، ودافعت عن قضايا عالمية كبرى، لتكتب سيرة من الصلابة في وجه كل محاولات الإخضاع والخنوع.

رفيقة الدرب وشقيقة الروح

الكتابة عن لينا طبّال مهمة شاقة، لأنها رفيقة الدرب وشقيقة الروح. الكلمات في حضرتها لا تكفي. أعرفها كما تعرفها شوارع طرابلس، ابنتها التي صنعت من الصلابة قدراً ومن النضال حياة.

امرأة استثنائية

لينا طبّال ليست مجرد محامية، ولا مجرد أستاذة جامعية تدرّس مادة حقوق الإنسان. إنها حالة نادرة في زمنٍ عمّ فيه الخنوع، امرأة اختارت أن تحمل الحقّ على كتفيها وتسير به في طرق محفوفة بالمخاطر، دون أن تلتفت إلى ثمنٍ أو حساب.

البدايات في طرابلس

منذ طفولتها في طرابلس، ظهرت شخصيتها المتمردة، شقية لا تخاف مواجهة أحد. ومع سنوات المراهقة، كانت تبحث عن معنى أوسع للحرية، حتى وصلت إلى مقاعد كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية – الفرع الثالث، تلك الجامعة التي عرفها الناس باسم “جامعة المظلومين”. هناك صقلتها التجربة، ووجدت رسالتها: أن تقف إلى جانب المظلومين مهما كان الثمن.

المحاماة سلاح لا وظيفة

كبرت لينا وصارت محامية، لكن المحاماة عندها لم تكن يوماً مهنة لتأمين لقمة العيش. لقد كانت سلاحها في وجه الظلم. دخلت قاعات المحاكم لا لتحصد مجداً شخصياً، بل لتدافع عن حقّ الآخرين في العدالة، حتى عندما كان هؤلاء الآخرون مثار جدل عالمي. لم تتردّد في الوقوف إلى جانب كارلوس، المصنَّف رمزاً للإرهاب، ودافعت عن حقه في محاكمة عادلة. كذلك، عندما وقف العالم بأسره في وجه صدام حسين، لم تخشَ من تبعات أن تكون جزءاً من فريق الدفاع عنه في مواجهة أعتى احتلال عالمي. لم يكن الأمر عندها ولاءً لشخص، بل وفاءً لمبدأ: أن العدالة لا تتجزأ، وأن حق الدفاع مقدّس مهما كان الموقف السياسي أو الضجيج الإعلامي.

البوصلة فلسطين

ومع ذلك، تبقى فلسطين البوصلة والقبلة. فلسطين كانت ولا تزال عنوان لينا الأول والأخير. لم تكتفِ بالكلام عنها ولا بالمزايدات من بعيد، بل خاضت تجربة حيّة حين انخرطت في أسطول الحرية، ثم أسطول الصمود، وسارت في البحر متحدية حصاراً أراد أن يخنق غزة وأهلها. هناك، حيث تُختبر المبادئ بالفعل، أثبتت أن حلمها أكبر من الحدود، وأن عزيمتها أقوى من القيود. وقد وطئت قدماها أرض فلسطين، فحققت حلمها ونالت شرف الوقوف بين أهلها، شاهدة على جرحهم وصمودهم، ومؤكدة أن فلسطين ليست شعاراً، بل قضية تُعاش وتُعانَى.

أستاذة بروح المناضلة

لكن لينا ليست فقط المحامية والمناضلة. هي أيضاً الأستاذة الجامعية التي جلست على مقعدها في كلية الحقوق لتدرّس مادة حقوق الإنسان لأجيال من الطلاب. لم تكن أستاذة تقليدية، بل كانت تلقي محاضراتها بروح من عايش الميدان. كانت تعلّمهم أن حقوق الإنسان ليست نصوصاً جامدة على الورق، بل سلاحاً يُرفع في وجه الجور، ورسالة لا تكتمل إلا بالعمل والتضحية. طلابها لم يروْها فقط أكاديمية تشرح لهم القوانين، بل شاهدوها قدوة حيّة تحمل القانون إلى ساحات المحاكم، وتحمله أيضاً في قلبها إلى فلسطين والعالم.

شخصية جامعة

في شخصيتها مزيج غريب من الأنوثة والصلابة، من الرقة والشجاعة. امرأة تعرف كيف تكون قوية دون أن تفقد حسّها الإنساني، وكيف تكون صارمة في الدفاع عن العدالة دون أن تفقد ابتسامتها في وجه من يحبونها. وهي في ذلك نموذج لامرأة كسرت القيود الاجتماعية، وصنعت من ذاتها صوتاً مسموعاً في ساحات كانت لعقود حكراً على الرجال.

أكتب عن لينا عن بعد وهي تواجه الاحتلال كما أعرفها قوية وصلبة، امرأة لا تهزّها العواصف، ولا تكسرها السجون، ولا تُرهبها التهديدات. أعلم أنها ستظل كما عهدناها: ثابتة، مناضلة، صلبة في زمنٍ امتلأ بالضعف. وسيأتي يوم نراها تعود من معاركها، منتصرة، لنحملها على الأكتاف كما تُحمل البطلات.

لينا طبّال ليست مجرد شخصية عابرة في سجلّ طرابلس أو لبنان. هي ابنة هذه المدينة، ابنة هذا الوطن، لبنان الذي يبحث عن عدالة منسية. لينا واحدة من النساء القلائل اللواتي أثبتن أن النضال ليس خياراً، بل قدراً. ولأنها كذلك، ستبقى في الذاكرة رمزاً للجرأة، للحرية، وللإيمان بأن الحق، مهما طال ليله، انتصر سابقا مع “جمول”، وستنتصر فلسطين.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى