مقالات وآراء

د. طارق الزمر يكتب : حين تتحوّل الهزيمة في غزة إلى مشروع أمريكي لإخضاع المنطقة!”

حين أعلنت إدارة دونالد ترمب مطلع الشهر، عن “خطة للسلام في غزة”، بدت الورقة للوهلة الأولى كجزء من محاولات إنهاء الحرب التي طالت وكلفت الجميع. لكن القراءة المتأنية لبنود الخطة وسياقات طرحها، تكشف عن أمر أعمق وأكثر دلالة:

إنها ليست خطة لإنهاء الحرب فحسب، بل وثيقة اعتراف غير مباشر بهزيمة إسرائيل في ميدان المعركة أمام صمود المقاومة الفلسطينية، ومحاولة أمريكية – إسرائيلية لإعادة تشكيل المشهد لصالح الاحتلال بعد فشل أدوات الحرب التقليدية.

فمنذ انطلاق “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، دخلت إسرائيل في أطول معركة عسكرية ونفسية واستراتيجية في تاريخها الحديث. ومع مرور الوقت، تآكلت الأهداف المعلنة للحرب، من “القضاء على حماس” إلى “تفكيك بنيتها العسكرية”، ثم إلى مجرد “إضعاف قدرتها على إطلاق الصواريخ”.

والآن، وبعد أكثر من عامين من الدمار، لم تعد تل أبيب قادرة على مواصلة المعركة بلا أفق سياسي، ولا على الخروج منها بنصر حاسم. وهنا جاء الحل الأمريكي: خطة تُمكّن إسرائيل من الخروج، وتُظهر أمريكا بمظهر راعي السلام، وتعيد للمنطقة صيغة جديدة لتقاسم النفوذ وفرض الاستقرار الهش.

وبعيدًا عن اللغة الدبلوماسية، تسعى خطة ترمب إلى فرض ثلاثة أهداف رئيسية:

  • 1. نزع سلاح المقاومة نهائيًا، من خلال فرض ترتيبات أمنية تحت إشراف دولي وإقليمي، تكون إسرائيل قادرة على التدخل عبرها.
  • 2. تجريد غزة من رمزية المقاومة، عبر “مجلس إدارة دولي” يقوده ترمب نفسه ويعمل تحت مظلة “السلام”، لكن وظيفته الحقيقية هي الإشراف على تطبيع جديد من داخل القطاع.
  • 3. تأهيل بيئة سياسية جديدة في غزة، تحت غطاء الإعمار والمساعدات، تهدف إلى خلق نخبة بديلة تُقصي الفصائل الرافضة وتُعيد تشكيل المشهد وفق قواعد “السلام الإبراهيمي”.

وهنا يبرز السؤال الجوهري: هل كانت إسرائيل بحاجة لخطة سياسية تقودها أمريكا لو كانت قد انتصرت؟

الإجابة ببساطة: لا.

فكلما كان الاحتلال قويًا ميدانيًا، كلما فرض شروطه دون الحاجة إلى وسطاء. وكلما ضعف، احتاج إلى غطاء سياسي يموّه فشله العسكري ويحوّله إلى تسوية. وخطة ترمب هي هذا الغطاء تمامًا. فهي تحاول أن تُخرج إسرائيل من المأزق، وتُلقي الكرة في ملعب “الاعتدال العربي”، وتُحمّل الفلسطينيين “مسؤولية القبول”.

إن وجود ترمب على رأس “مجلس السلام” المقترح ليس رمزيًا فقط، بل يعكس إصرارًا على أن يقود ترامب بنفسه مشروع تصفية القضية الفلسطينية، مستندًا إلى إرثه في صفقة القرن، وشبكة التطبيع الإبراهيمي، وتحالفه مع اليمين الإسرائيلي الأكثر تطرفًا. فالمطلوب ليس فقط وقف الحرب، بل تفكيك بنيان المقاومة سياسيًا ونفسيًا، بعد فشل تحطيمه عسكريًا.

ليس في الخطة أي بُعد حقيقي للسلام أو العدالة، ولا تتضمن اعترافًا بالحقوق الفلسطينية التاريخية، ولا ترتكز إلى مرجعية قانونية أو أخلاقية. بل هي، في جوهرها، استمرار لـ”صفقة القرن” ولكن بوجه جديد، وتحت غطاء إعادة الإعمار، والمساعدات، والتنسيق الإقليمي.

وهي بذلك تُعيد طرح غزة باعتبارها “كعب أخيل” القضية الفلسطينية: إن تم انتزاعها من يد المقاومة، تهاوت باقي القلاع. لذا فإن معركة الخطة ليست أقل خطورة من معركة الميدان، بل أشد خفاءً وتعقيدًا.

الحقيقة ان خطة ترمب، رغم ما فيها من وعود إعمار وتنمية وإدارة دولية، ليست إلا محاولة مكشوفة لإعادة هندسة غزة دون مقاومة، ومحو آثار طوفان الأقصى، وتطبيع الحصار كواقع دائم.

إنها باختصار: إعلان هزيمة إسرائيلية بصيغة دبلوماسية أمريكية، وخطة تصفية ناعمة بعد فشل التصفية الخشنة.

والمطلوب اليوم من القوى الفلسطينية والعربية والإسلامية والإنسانية، ليس فقط رفض الخطة، بل فضح أهدافها وتفكيك كمائنها، وإعادة تأكيد أن فلسطين ليست للبيع، والمقاومة ليست بندًا تفاوضيًا، وغزة لن تكون بوابة لتصفية القضية بل شوكة دائمة في حلق المشروع الصهيوني.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى