
ذاكرتي ليست صندوق صور وكلمات فحسب، بل وطن صغير تسكنه وجوه عبرت حياتي وعبّرت عنها. وجوه لا يبهت حضورها مهما مرّ الزمن، وفي مقدمتها وجه صديقي جمال خاشقجي، الذي طال غيابه عن الدنيا، لكن حضوره لم يغادرني لحظة.
جمعتنا الصحافة أولًا في الثمانينيات، على ضفاف جريدة الحياة اللندنية. ثم تقاطعت طرقنا ثانية في مشروع تطوير جريدة المدينة، حيث كان جمال مدير تحريرها، بينما كنت أطلّ على الحلم من زاوية أخرى. منذ ذلك الحين، لم يكن بيننا مجرد زمالة مهنية، بل صداقة متينة تشابكت خيوطها كما يتوارث جيل عن جيل قطعة نسيج عتيق.
تعلّمت من جمال الإصغاء الذي يشبه الصلاة الصامتة، والبحث عن المشترك في عالم يميل إلى التفريق. كان يجمع بين الرومانسية والواقعية كما يجمع النهر بين منابعه وروافده، وكأن في داخله شاطئين لا يلتقيان إلا في لحظة الإبداع.
لذلك بدا للبعض ليبراليًا وإسلاميًا في آن، إصلاحيًا وثوريًا، رومانسيًا وواقعيًا. لكنه في العمق كان إنسانًا يرى الحياة في كل ألوانها، لا في الأبيض والأسود وحدهما.
في معركة انتخابات الرئاسة التي خضتها، كان جمال يكتب لي كما يكتب صديق لرفيقه: يشجع، يحلل، يختلف، لكنه لا يتخلى. وعندما زُجّ بي في السجن، ظلّ يكتب ويدافع ويتصل، حتى التقينا مجددًا في فضاء الحرية لنستأنف حوارًا لم ينقطع يومًا حول الممكن والمتاح وأولويات اللحظة.
في ثورة يناير، كان جمال من أوائل من صدّقوا أن العالم العربي يمكن أن يولد من جديد. بذل جهده لتطمين الخائفين، محاولًا أن يكون جسرًا بين الحلم والسلطة، بين الثورة والحكم. ورغم أن رياح الخوف كانت أقوى من قدرته، لم يفقد إيمانه بأن التاريخ يُصنع لا يُتفرّج عليه.
عشنا أكثر من ربع قرن من الحوار والجدل والمكاشفة. كنا نختلف في مساحة الممكن، لكننا لم نختلف على جوهر الحلم.
بين بيروت وإسطنبول وواشنطن، كان جمال يحمل إليّ نصائح الأصدقاء ورسائل الطامحين إلى إصلاح بلا قطيعة. يذكّرني بأن السياسة ليست خصومة أبدية بل حوار ممتد. وكنت أراه الصحفي الذي لا يكتفي بالكتابة، بل يمارس الإصغاء كفن نبيل.
في بيتي بإسطنبول عام 2017، جلسنا طويلًا نتبادل القليل من الكلام والكثير من الصمت. أخبرني عن جراحه الخاصة، عن الطلاق القسري الذي فُرض على حياته. كنت أسمع صوته المرتجف وأرى في عينيه إنسانًا مثخنًا بالجراح لكنه لا يفقد ابتسامته التي كانت عزاءً للعالم كله.
قلت له يومها: “الأيام تمضي سريعًا، لكن الله الذي يختبر صبرنا لن يتخلى عنا.” ابتسم ابتسامته الحزينة، ومنذ ذلك اللقاء طال الفراق بيننا سبع سنوات وبضع ساعات، كأنها خمسة قرون.
لم أتخيل أن أكتب عنه وهو غائب. أسمع صوته في الليل كمن يسمع صدى البحر في صدفة، أرى عينيه بين السطور، وأشعر بإصغائه الحنون في الفراغ. لم أبكِ في حياتي إلا حين رحل والداي… وحين غاب جمال.
ما زلت أحتفظ برسالته لي في السجن: «حروف كلمة الظلم من حروف كلمة الظلام… فالظلام هو الذي يأتي بالظالمين… وسينتهي الليل الطويل.» لا أعرف كيف أرد عليه اليوم، لكنني أعرف أن الليل سينتهي كما كتب، وأن كلماته ستبقى كما قال.
لن أودّع جمال، فهو لم يغادرني حتى أستدعيه. سيبقى حيًا في ذاكرتي، حاضرًا في قلبي، ولو افترقنا خمسمائة عام. هناك أصدقاء يصبحون وطنًا، وهناك أوطان لا تعود إلا في أصدقاء كهذا الرجل النبيل الذي كان، وما زال، وسيظل جزءًا من حياتي وحكايتي.
أكتب عنه اليوم لا كرثاء للغائب، بل كتجديد عهد مع الحلم الذي حملناه معًا: أن الحرية وطن، وأن الأصدقاء قد يكونون أوطانًا تمشي على قدمين.