مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب: شخصيات في حياتي (١٥).. عمرو موسى في يوم مولده



في مثل هذا اليوم، السادس من أكتوبر عام 1936، وُلد عمرو محمود موسى في حي السيدة زينب بالقاهرة، لتبدأ حكاية رجلٍ ستتشابك سيرته مع نصف قرن من التاريخ العربي الحديث. واليوم، وقد أتم عامه الثامن والثمانين، تبدو قصته كأغنية طويلة لم تنتهِ بعد؛ فيها المجد والعزلة، الضوء والظل، الخطابة والصمت، والحلم الذي لم يكتمل.

في كل سيرة سياسية هناك فصل ناقص لم يُكتب بعد، وحكاية تظل مفتوحة رغم اكتمال فصولها على الورق. وحكاية عمرو موسى من هذا النوع، بدأت بملامح لامعة، ثم انكسرت عند مفترق التوقيت والخذلان والحصار.

عرفته عن قرب، لا كسياسي فقط، بل كإنسان مثقف يحمل في أعماقه قدرًا من الدفء بقدر ما يحمل من الصرامة. يجيد فن الموازنة بين الأناقة والحزم، بين البلاغة والدبلوماسية، بين أن يكون وزيرًا يحفظ البروتوكول وأن يكون مصريًا يتجاوز حدوده.

أول لقاء جمعنا كان في شتاء عام 1995، حين رافقته إلى غزة لحضور افتتاح أول برلمان فلسطيني على الأرض. كانت الرحلة قصيرة في زمنها، عميقة في رمزيتها.

توقّفنا طويلًا على بوابة معبر رفح، تأخّر الدخول، وصمت الجميع، حتى قطع موسى الصمت بعبارة حاسمة: «أبلغوا قيادتكم أن أي مسؤول إسرائيلي يهبط القاهرة لن يغادرها قبل عشرين دقيقة.» ظننتها لحظة انفعال، لكنها كانت قرارًا دبلوماسيًا دقيقًا. وبعد أيام، قرأت في الصحف الإسرائيلية أن نتنياهو انتظر فعلًا عشرين دقيقة في مطار القاهرة.

في تلك اللحظة، فهمت أن الرجل لا يتكلم إلا بما ينوي، ولا ينوي إلا ما يستطيع تنفيذه.

كان وزيرًا للخارجية في مرحلة سياسية مضطربة، ومع منتصف التسعينيات صار اسمه يتردّد في المقاهي، وفي مقالات المثقفين، وفي همس الشارع، كبديل مدني محتمل، يملك كاريزما الدولة وخيال الجمهور.

لم يكن يتحدث بلغة السلطة، بل بلغة الشارع. لم يحتمِ خلف البروتوكول، بل خرج به إلى قلب المعركة. كانت كلماته في وجه إسرائيل والهيمنة الأمريكية تثير تصفيق الناس وغضب السلطة في آن.

لم يحتمله النظام طويلًا. فالرجل الذي يخطف الأضواء دون أن يسعى إليها كان خطرًا على مشروع التوريث الذي كانت تُطبخ تفاصيله بهدوء. فبدأت خطوات الإقصاء: تقليص صلاحياته، إبعاده عن الاجتماعات، ثم إرساله إلى جامعة الدول العربية في مهمة سُمّيت «ترقية»، لكنها كانت في جوهرها مقبرة سياسية أُعدّت بعناية.

في الظاهر، نُصّب أمينًا عامًا للجامعة. في العمق، تم عزله من المشهد المصري. وفي الواقع، تم دفن حلمٍ بدأ يكبر في ذهن موسى ووجدان الناس معًا.

لكنّ عزله لم يقتله سياسيًا، بل منحه مساحة أوسع للتأمل، ووقتًا أطول ليقرأ خرائط المستقبل. وحين اندلعت ثورة يناير 2011، عاد اسمه إلى الواجهة كأحد الوجوه المدنية الممكنة للمرحلة الجديدة.

اقتربنا أكثر في تلك الفترة. تحاورنا طويلًا، وتشاورنا في محطات عديدة، وتوافقنا على كثير من المواقف الليبرالية رغم اختلاف الخلفيات.

وعندما تم استبعادي من انتخابات الرئاسة عام 2012، صوتت الهيئة العليا لحزب غد الثورة لاختيار مرشح بديل، فحصل عمرو موسى على نصف الأصوات تقريبًا. كانت تلك شهادة تقدير من جيل جديد لرجل من جيلٍ سابق، جمع بين الحلم بالحرية والإيمان بالدولة.

لكن اللحظة لم تكن لحظته. فالموجة الثورية كانت تبحث عن وجه جديد، عن صوتٍ أكثر جذرية، عن نَفَس لا يذكّرها بالأنظمة القديمة. ومع ذلك، ظلّ موسى، في نظري، أكثر وطنية من كثيرين ممن تزيّوا بلباس الثورة دون أن يؤمنوا بها.

في إحدى محطات التقارب، بعد لقائي بالرئيس محمد مرسي، عرضتُ عليه فكرة انضمامه لحكومة ائتلافية كنائب أول لرئيس الوزراء مسؤول عن العلاقات الخارجية. لم يتردد، لم يناور، وافق ببساطة وصدق. لكن الرياح جرت كما أرادت الأيادي الخفية، داخلية وخارجية، التي لم ترغب في عودته إلى قلب القرار.

أتذكر مأدبة غداء جمعتني بالمجلس العسكري، برفقة المشير طنطاوي، والفريق سامي عنان، وسيد البدوي. سأل الأخير عن توقعات الانتخابات، فأجاب عنان: «الإعادة بين مرسي وأبو الفتوح.» وعندما ذُكر اسم موسى، قال عنان: «مستحيل.» لم تكن نبوءة سياسية بقدر ما كانت قراءة لخارطة أُعدّت مسبقًا.

وكان للموقف الإقليمي دورٌ أيضًا. إذ احتفظت أبوظبي تجاهه بجفاء واضح بسبب سخريته العلنية من مبادرة الشيخ زايد حول العراق. كان موسى وقتها لا يخشى إعلان موقفه، حتى ولو جاء على حساب علاقاته.

وأشهد — بصدق الصديق لا المجاملة — أنني أحببت عمرو موسى منذ زمن، وما زلت أحبه حتى اليوم. أحببت فيه السياسي الواعي، والإنسان الرقيق، والدبلوماسي الذي يملك موهبة الإصغاء، وحسّ النكتة، وأناقة الحضور.

مدين له بتشجيعه في محطات مفصلية، وبثقته التي عبّر عنها علنًا في مناسبات عديدة، حتى في حضور من لا يحبونه. جمعنا عشرات الاجتماعات، وكنا نختلف في التفاصيل، لكننا نتفق في الجوهر، ربما بحكم الخلفية الليبرالية المتقاربة، وربما بسبب إنسانية لم تُكتب بعد في أي مذكرات.

قد يرى البعض أن ترشحه في 2012 كان متأخرًا، وأن اللحظة تجاوزته. وربما معهم بعض الحق. فالتاريخ لا يمنح الفرص مرتين، والزمن السياسي أكثر قسوة من الزمن البيولوجي.

واليوم، وقد تجاوز عمرو موسى الثامنة والثمانين، أراه لا كرئيس محتمل، بل كـ”عرّاب” ممكن للسياسة المصرية، وكمُنقذ محتمل لما تبقى من حزب الوفد وروحه الليبرالية التي أُزهقت.

ما زال هذا الرجل، برأيي، مناسبًا لدور جامع في أي مرحلة انتقالية قادمة، يحتاج فيها الوطن إلى رجل دولة ذي خبرة واتزان، يُطمئن الجميع ولا يستفز أحدًا.

عمرو موسى… حكاية لم تكتمل بعد، لكنها أيضًا لم تنتهِ. الحكايات الكبيرة لا تُختم، بل تستمر في ذاكرة الشعوب، لأن أصحابها لم يكونوا عابرين في زمنهم، بل جزءًا من ذاكرة وطنٍ لا يشيخ

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى