
تضمّن الاتفاق النووي الإيراني مع مجموعة 5+1 (الولايات المتحدة، الصين، روسيا، فرنسا، بريطانيا وألمانيا) الموقع عام 2015، إنشاء آليّة مراقبة من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية للتحقق من تنفيذ إيران لبنود الاتفاق، وفي حال أبلغ عن خرق إيرانيّ كبير له، يمكن لأيّ دولة في المجموعة، إعادة فرض العقوبات على إيران التي صدرت أصلاً عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع كالقرار 1929 وغيره، خلال 30 يوماً دون تصويت جديد. هذا التفعيل يُعيد العقوبات تلقائياً، وبالقوة الإلزاميّة نفسها التي كانت لها.
منذ توقيع الاتفاق النووي، التزمت طهران بالملحق A، الذي تضمّن خطة العمل الشاملة المشتركة، وأبرز نقاطها: تخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي التي تستخدمها إيران، تقليص مخزونها من اليورانيوم المنضب، تحويل مفاعل آراك لمنع إنتاج البلوتونيوم، والسماح للوكالة الدولية بإجراءات تفتيش مشددة وطويلة الأمد، على أن ترفع العقوبات الدولية المفروضة على إيران مقابل تنفيذ التزاماتها النووية.
منذ اليوم الأول لتوقيع الاتفاق اعتبر نتنياهو أنه اتفاق سيّئ، موقفه هذا، لم يكن مستبعداً إذ انّ سجلّ نتنياهو حافل بالتحريض، والكذب، والبروباغندا، ليجعل من البرنامج النووي الإيراني السلمي حجة لضرب إيران، والقضاء على نظامها الإسلامي.
منذ 33 عاماً لم يتوقف نتنياهو عن إثارة برنامج إيران النووي، إذ في عام 1992 وقبل أن يترأس أول حكومة عام 1996، صرّح نتنياهو لإحدى القنوات الإسرائيلية أن إيران على بعد ثلاث أو خمس سنوات من امتلاك السلاح النووي. عام 1996، وأمام الكونغرس الأميركي حذر من “العواقب الكارثية على البشر في حال امتلاك إيران القنبلة، وأكد أنّ الموعد يقترب جداً”.
وثائق “ويكيليكس” ذكرت أنّ نتنياهو قبيل رئاسته للحكومة أبلغ وفداً من الكونغرس الأميركي أنّ إيران على بعد سنتين أو ثلاث من امتلاك القدرات النووية. كما كشفت “ويكيليكس” أيضاً، أن نتنياهو أبلغ وفداً سياسياً تابعاً للكونغرس، أنّ إيران “امتلكت القدرة فعلياً لصناعة قنبلة نووية، وأنها تستطيع صناعة أكثر من قنبلة خلال سنة أو سنتين!”.
عام 2012 قال نتنياهو أمام الأمم المتحدة إنّ “الحصاد النووي سيكون بعد عدة أشهر”.
عندما تمّ الاتفاق النووي عام 2015، أبلغ نتنياهو الرئيس الأميركي أوباما أنّ “إسرائيل” تعارض الاتفاق بشدة، وأنّ الاتفاق بعيد عن الواقع، وتعهّدت “بممارسة الضغط لمنع اتفاق نهائي سيّئ”. بعد اتصاله بأوباما، أصدر نتنياهو بياناً جاء فيه أنّ “اتفاقية تقوم على اتفاق إطاري كهذا تهدّد وجود “إسرائيل”… البديل هو الوقوف بحزم، وزيادة الضغوط على إيران حتى يتمّ التوصل إلى اتفاق أفضل”.
في 19 أيلول/ سبتمبر 2017 وبعد أشهر من تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، وقف نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وندّد بشدة بالاتفاق، لأنه سيمهّد الطريق أمام إيران للحصول على أسلحة نووية في حال لم يتمّ إلغاؤه أو تعديله”. أثناء ترشح ترامب للرئاسة الأميركية، أعلن عن عزمه الانسحاب من الاتفاق النووي إذا ما فاز في الانتخابات. هكذا التقى ترامب ونتنياهو على هدف يرمي إلى وأد الاتفاق النووي، وهذا ما نفذه ترامب عام 2018.
انسحاب واشنطن من الاتفاق أثبت عدم صدقيّتها وعدم صحة ادّعاءاتها التي جعلتها تخرج منه. لو كانت ادّعاءاتها حقيقية، لكانت الدول الأوروبية الثلاث بريطانيا وفرنسا وألمانيا، الموقعة على الاتفاق، أعادت فرض العقوبات عملاً بالملحق A وقبل تولي ترامب السلطة.
لذلك أحرج انسحاب ترامب من الاتفاق النووي، الثلاثي الأوروبي، خاصة بعد أن أعادت واشنطن فرض العقوبات الأحادية الجانب على إيران، وألزمت دول العالم الالتزام بها، بما فيها الثلاثي الأوروبي الذي حاول أن يبيّن للعالم عدم تبعيته للأميركي، وعلى استقلالية قراره، من خلال تأسيسه يوم 31 كانون الثاني/ يناير 2019، آلية مالية خاصة عرفت بـ (Instex) لتسهيل التبادل التجاري مع إيران بعملة غير الدولار، إلا انّ الترويكا لم تستطع تجاهل الضغوط الأميركيّة ما عطّل الآلية.
هكذا فشلت الترويكا في المضيّ بالانستكس Instex، ورضخت كما الاتحاد الأوروبيّ معها، ومعظم دول العالم للضغوط الأميركية.
رغم العقوبات الأميركية والأممية المفروضة على إيران منذ عام 1980، ورغم الضرر الاقتصادي والمالي، والتجاري، والحصار الكبير الذي تعاني منه، لم تستطع واشنطن لوي ذراع إيران، أو أن تُجبرها على التراجع أو التنازل عن حقها النووي الذي كفله نظام الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
المفاوضات التي جرت بين إيران والترويكا الأوروبية، جاءت بضغط من الولايات المتحدة لتفعيل آلية الزناد، كي تجعل إيران تستسلم، وهي في أحلك الظروف وأقساها أو تتراجع عن حقها، بل استطاعت أن تستوعب إلى حدّ ما العقوبات الشرسة المفروضة عليها، مع إدراكها مدى الحملة المسعورة عليها، التي تستهدف في الأساس إسقاط النظام الإيراني.
تفعيل آلية الزناد الجديدة، رفعت منسوب العقوبات حتى وصلت إلى ذروتها، رغم ذلك لم تجعل القيادة الإيرانية ترضخ لمطالب ترامب المستحيلة.
لو كانت إيران خرقت فعلاً الاتفاق، ولم تلتزم به منذ توقيعه عام 2015، وحتى عام 2018، تاريخ خروج ترامب منه، وادّعاءاته الواهية، لخرجت بريطانيا وفرنسا وألمانيا قبله من الاتفاق، لأنّ الوكالة الدولية للطاقة الذرية لم تسجل خرقاً إيرانياً للاتفاق حتى عام 2018. لو كانت الترويكا على يقين أنّ قرار ترامب يستند إلى الصدقية، لما أسّست آلية الانستكس التي لم تستطع تنفيذها نتيجة ضغوط ترامب، ما جعلها تذعن لإرادة ترامب وقراره التعسّفي.
إنّ رفض وتنديد طهران بتفعيل آلية الزناد، سيدفع بنتنياهو ومعه اللوبيات اليهودية داخل الولايات المتحدة وخارجها، للضغط على ترامب للتعامل مع طهران بطريقة أكثر حزماً، وهو الذي يحثّ واشنطن منذ سنوات على استخدام القوة العسكرية ضدّها، وتخييرها بين اثنين: إما تنفيذ المطلوب منها دون قيد أو شرط، وإما فرضه عن طريق الحرب، وهذا ما يعمل عليه بكلّ قوة مجرم الحرب في تل أبيب.
إنّ سياسات واشنطن العدائية الحالية تجاه طهران، وعقوباتها القاسية وصلت إلى ذروتها، ومع ذلك، لن تجعل إيران تستسلم لقرار تفعيل آلية الزناد، وهي التي في أصعب الظروف وأقساها لم تساوم ولم تتخلّ عن حقها، بل استطاعت أن تستوعب العقوبات وتتحمّلها رغم قسوتها، لأنّ إيران تدرك أبعاد الهجمة المسعورة عليها التي تستهدف في العمق النظام الإيراني كله، بدءاً من منع إيران بالمطلق أن يكون لها برنامج نووي سلمي، وبرامج صواريخ باليستية، وإجبارها على تفكيكها بالكامل، لتكون تمهيداً لإجراءات أميركية ـ إسرائيلية في ما بعد، لاستهداف النظام الإيراني كله وإسقاطه.
منذ أيام ذكرت صحيفة “إسرائيل هيوم” أنّ الحرب مع إيران تقترب، وستكون أصعب وأكثر عنفاً. أما صحيفة “يديعوت أحرونوت” فقالت: “هناك خوف من سوء تقدير بين إيران و”إسرائيل”، قد يؤدي إلى اندلاع حرب من جديد بعد تفعيل العقوبات على إيران”.
بعد كلّ الذي فعلته واشنطن وتل أبيب في دول المنطقة، بقيت إيران صامدة إذ لم يفلح الحصار ولا العقوبات والاعتداءات عليها، لإدخالها في بيت الطاعة الأميركي ـ الإسرائيلي” مثل ما أدخلت دولاً فيه.
46 عاماً من القرارات الأممية، والتهديد والتهويل والوعيد، والحصار، والضغط، بقيت إيران إحدى الدول القليلة جداً في العالم كله التي تملك قرارها الحر، وإرادتها، وسيادتها تجاه الداخل والخارج، لتقول بكلّ ثقة وشجاعة، لا، ولا للإمبراطورية المدمنة على الحروب التي لم تشبع منها، ولا ترتوي.
تفعيل آلية الزناد، لبّى طلب ترامب ونتنياهو، ليكون لهما الذريعة “القانونيّة” لخطوتهما التالية غير البعيدة، وهي الحرب على إيران وإسقاط نظامها.
كم هي كثيرة حروب الولايات المتحدة في معظم دول العالم التي لم تترك وراءها سوى الخراب والدمار والفقر، والفوضى، ولعنة الشعوب التي ذاقت الويلات على يديها، وكلّ ذلك يتمّ تحت غطاء السلام، والأمن، وحقوق الشعوب.
بئس السلام والأمن إنْ كان سيأتي على يد كاوبوي العصر الذي يريد أن يجرف من أمامه كلّ شيء، يستبدّ، يبتز، ينهب، يدمّر، غير مبالٍ بالدول والشعوب، بالحلفاء والخصوم، بالأصدقاء والأعداء، ولسان حاله يردّد بعنجهية واستعلاء لا حدود له: “أميركا أولاً” !