قراءة في خطة ترامب للسلام.. مأزق الاحتلال ومناورات الهروب من الهزيمة..ورقة تحليلية مركز حريات

وصف الورقة:
تحلل الورقة أبعاد خطة ترمب المقترحة لإدارة غزة بعد الحرب، وتفكك دلالاتها السياسية والاستراتيجية، وتعتبرها انعكاسًا مباشرًا لهزيمة حكومة نتنياهو ميدانيًا واستراتيجيًا في مواجهة المقاومة الفلسطينية. تتناول الورقة بنية الخطة وتوقيتها وأهدافها وتناقضاتها، وتستكشف علاقتها بتآكل الردع الإسرائيلي، وانهيار خيارات الحسم العسكري، والبحث عن غطاء أمريكي لتسوية مهينة، بالإضافة إلى أبعاد الهروب إلى الأمام بتوظيف الواجهة الدولية.
التمهيد: خطة ترامب.. حين تُكتب الهزيمة بمداد التحالف
في زمن باتت فيه مشاريع الهيمنة تتهاوى أمام صلابة الشعوب ومقاومتها، جاءت خطة ترامب لإدارة غزة في اليوم التالي للحرب، لا بوصفها مشروع تسوية، بل كمحاولة لتغطية هزيمة نكراء تلقاها الاحتلال الإسرائيلي، في ميادين القتال وعلى جبهات السياسة والإعلام والشرعية. لقد خاض الاحتلال معركته الأطول والأعنف ضد المقاومة الفلسطينية منذ تأسيس كيانه، لكنه لم ينجح في تحقيق أي من أهدافه المعلنة، بل خرج مثقلًا بفضائح أخلاقية وعسكرية، وانكشافات استراتيجية حادة.
في هذا السياق، جاءت “خطة ترامب” – التي طُرحت تحت لافتة وقف الحرب وبدء مرحلة “ما بعد حماس” – لا لتؤسس حلًّا، بل لتموّه فشلًا، وتحوّل الهزيمة إلى “مخرج سياسي آمن” لحكومة إسرائيل. فمن خلال اقتراح “مجلس سلام” تديره الولايات المتحدة بواجهة عربية شكلية، تسعى واشنطن إلى إعادة تعويم الاحتلال، وتحصين جبهته الداخلية، وفرض معادلة جديدة تعيد إنتاج السيطرة دون تكلفة الاحتلال المباشر.
إن القراءة الدقيقة للخطة تكشف أنها تعبير عن ارتباك استراتيجي أكثر منها رؤية منظمة؛ فهي تفتقر إلى الواقعية، وتتجاهل مركزية المقاومة في معادلات غزة، وتُرهن مصير المنطقة لقوى ثبت عجزها وتواطؤها سابقًا. وبدل أن تُحدث تحوّلًا، فإنها تفضح مأزق تل أبيب وواشنطن معًا، وتسلط الضوء على التآكل الكبير في أدوات الردع والهيمنة، وتكشف للمرة الأولى حجم التأثير الشعبي للمقاومة على صياغة القرارات الدولية والإقليمية.
من هنا، فإن الورقة تسعى إلى تحليل دلالات هزيمة نتنياهو من خلال هذه الخطة الأمريكية – الإسرائيلية، وقراءة ما تعنيه هذه المرحلة للمستقبل الفلسطيني والعربي، في ضوء موازين القوة الجديدة التي فرضتها المقاومة.
أولًا: الخطة بوصفها اعترافًا بالهزيمة العسكرية والسياسية
على الرغم من أن “خطة ترامب” طُرحت ضمن غلاف دبلوماسي يتحدث عن وقف الحرب وإعادة الإعمار، فإن جوهرها في السياق السياسي يعكس اعترافًا بهزيمة إسرائيل في غزة. فلم تتمكن حكومة نتنياهو من تحقيق هدفها الاستراتيجي المعلن بتدمير حركة حماس أو تصفية قوتها العسكرية، رغم 24 شهرًا من القصف والحصار البري والبحري والجوي. بل إن صمود المقاومة – ميدانيًا وشعبيًا – دفع الاحتلال إلى التخبط في الأهداف، والتراجع من السعي إلى القضاء الكامل على المقاومة، إلى محاولة فصلها عن غزة، ثم إلى البحث عن مخرج مشرف من المأزق.
إن سعي واشنطن لصياغة خطة يُعاد فيها تشكيل الوضع في غزة تحت إشراف أمريكي – عربي، دون حماس، هو إعلان بأن إسرائيل عاجزة عن استكمال الحرب بمفردها أو فرض شروطها على الأرض. فلو كانت إسرائيل في موقع المنتصر فعليًا، لما احتاجت لخطة دولية ترمم نتائج المعركة وتُحسِّن صورتها أمام الداخل الإسرائيلي والخارج الدولي.
كما أن وجود ترامب نفسه على رأس “مجلس السلام” المقترح هو بحد ذاته مؤشر على حجم الأزمة التي يواجهها المشروع الصهيوني، إذ اضطرت واشنطن إلى الزج برئيس سابق يحمل خطابًا حادًا وتحالفات صهيونية عميقة، من أجل إعادة الإمساك بخيوط الملف، وهو ما يكشف عن مأزق ليس فقط عسكريًا، بل سياسيًا ودبلوماسيًا أيضًا.
وباختصار، فإن مجرد طرح الخطة بهذه الطريقة، وفي هذا التوقيت، يؤكد أن المعركة السياسية بعد المعركة العسكرية هي معركة الاعتراف بالهزيمة ومحاولة التستر عليها بخطة يبدو ظاهرها إعادة إعمار، وباطنها إعادة هيمنة.
ثانيًا: خطة ترمب كمحاولة لتصفية الإنجاز الرمزي والاستراتيجي لطوفان الأقصى
تأتي خطة ترمب في سياق دولي مرتبك تحاول فيه واشنطن وتل أبيب إعادة صياغة الواقع السياسي بعد الزلزال الذي أحدثه طوفان الأقصى. فالعملية لم تكن مجرد هجوم مفاجئ، بل كانت إعلانًا رمزيًا واستراتيجيًا بتحطم صورة التفوق الإسرائيلي وتحدي المنظومة الأمنية والعسكرية التي طالما اعتُبرت عصيّة على الاختراق. وقد أعادت هذه العملية الصراع إلى مربعه الأصلي: الاحتلال مقابل التحرير، لا مجرد نزاع على حدود أو تحسين شروط الحياة تحت الاحتلال.
ومن هنا، يمكن قراءة خطة ترمب بوصفها “مشروعًا مضادًا” لا لإعادة الإعمار فحسب، بل لتصفية آثار ما حققته المقاومة من تغيير في ميزان الرمزية والمبادرة الاستراتيجية. فهي تحاول – من خلال إخراج حماس والمقاومة من المعادلة – أن تُمحو دلالات الطوفان، وتعيد تشكيل المشهد بما يتناسب مع سردية “المجتمع الدولي” حول الشرعية والاعتدال، بعيدًا عن منطق التحرر والمقاومة.
فالمطلوب ضمن الخطة ليس فقط وقف الحرب، بل نزع سلاح المقاومة، وإعادة تأهيل القطاع وفق هندسة أمنية وسياسية ترعاها قوى دولية وعربية تقبل بشروط إسرائيل وتعمل ضمن حدودها. وهو ما يعني محاولة ترسيخ الهزيمة النفسية والمعنوية بعد الفشل العسكري.
إنها خطة لتصفية المكاسب لا لحلّ الأزمات، ولإعادة قولبة الوعي العربي والفلسطيني بعد أن أعادته غزة إلى مساره التحرري. ولذلك فإن أخطر ما في الخطة هو بعدها الرمزي: قتل “المعنى” الذي صنعته المقاومة، قبل محاولة استئصالها المادي.
ثالثا: من الطوفان إلى الخطة
لم تكن “خطة ترمب” لإنهاء الحرب على غزة مجرّد مبادرة تسووية طارئة، بل جاءت في توقيت سياسي واستراتيجي بالغ الحساسية، كاشفة عمق الهزيمة التي مني بها الاحتلال الإسرائيلي، ومجسّدة لحالة الانكشاف التي طالت قيادته، وعلى رأسها بنيامين نتنياهو. فقد شكّل طوفان الأقصى تحولًا غير مسبوق في مسار الصراع الفلسطيني – الصهيوني، حين نجحت المقاومة في نقل المعركة إلى عمق “الكيان”، واختراق منظومة الأمن والسيطرة التي تفاخر بها الاحتلال لعقود.
هذا الطوفان لم يربك فقط مراكز القرار العسكري والسياسي في إسرائيل، بل أسقط جملة من المسلّمات التي كانت تتحكم في نظرة العالم إلى الصراع، خصوصًا في ظل موجة التطبيع الإبراهيمي، والتحولات الإقليمية المتسارعة. فشلت إسرائيل في استعادة زمام المبادرة، أو إقناع شعبها والعالم بأنها في موقع السيادة والتحكم، مما دفع الإدارة الأمريكية بقيادة ترمب إلى التدخل كمخرج اضطراري، لإعادة صياغة مشهد يبدو خارج السيطرة.
إن قراءة هذه الخطة الأمريكية في ضوء المعركة العسكرية الفاشلة، تمكّننا من فهم أعمق لتحولات القوة والمكانة والشرعية، ليس فقط في ساحة غزة، بل في عمق معادلة الشرق الأوسط، حيث تتقاطع قوى المقاومة مع خرائط التغيير الشعبي، ومشاريع الاستقلال عن الهيمنة الأمريكية – الصهيونية. ومن هنا تأتي هذه الورقة لتفكيك دلالات الهزيمة من خلال الخطة، واستشراف معالم مرحلة جديدة قد تعيد رسم ملامح الصراع.
رابعا: نتنياهو في مرآة الهزيمة
لم يكن بنيامين نتنياهو في تاريخه السياسي كله أقرب إلى الهزيمة الكاملة كما بدا بعد طوفان الأقصى. فرئيس الوزراء الذي طالما بنى صورته على أنه “السيّد الأمني لإسرائيل”، وقائد الجبهة الداخلية، بدا اليوم مكشوفًا أمام شعبه، ومُحاصرًا بمآزق لا خروج منها إلا بمساعدة خارجية. وقد كشفت خطة ترمب عن أحد أهم تجليات هذا الإخفاق، كونها جاءت كـ”ورقة إنقاذ أمريكية” بعد انهيار الرهان على الحسم العسكري.
على المستوى العسكري، فشل جيش الاحتلال في تحقيق أي من أهدافه المعلنة. لم يتمكن من القضاء على المقاومة، ولا من تحرير الأسرى، ولا من إعادة الهدوء إلى مستوطنات الغلاف. وبات واضحًا أن نتنياهو جرّ إسرائيل إلى أطول وأعنف معركة في تاريخها دون مكاسب تُذكر، بل مع خسائر فادحة في الأرواح والمعدات، وتراجع في ثقة الجمهور بقدرة الجيش على الحسم.
سياسيًا، لم يكن وضع نتنياهو أفضل حالًا. الانقسام الداخلي الإسرائيلي بلغ ذروته، مع احتجاجات واسعة ضد سياساته، وتصدّع غير مسبوق في علاقته بالجيش، والقضاء، والمؤسسات الأمنية. كما بدأت بعض النخب السياسية في تل أبيب تتحدث علنًا عن نهاية “عصر نتنياهو”، وعن ضرورة مراجعة استراتيجية القيادة برمّتها.
كل هذا جعل نتنياهو في حاجة ماسّة إلى “نصر وهمي” يُسوّق لشعبه، فجاءت خطة ترمب كغطاء أمريكي للانسحاب التدريجي من غزة دون الاعتراف بالهزيمة، مع وعود بإعادة ترتيب المشهد السياسي والإداري لما بعد الحرب، عبر ما يسمى “مجلس السلام” برئاسة ترمب نفسه.
لكن ما لم يدركه نتنياهو وحلفاؤه هو أن هزيمته لم تعد محصورة في ميدان غزة، بل بدأت تتحوّل إلى مأزق وجودي لإسرائيل كلها.
خامسا: خطة ترمب كإنقاذ متأخر
حين تُعلن إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب عن خطة مفصلة لإدارة ما بعد الحرب في غزة، وتكون تلك الخطة أشبه بـ”حكومة ظل دولية” تقترح نزع سلاح المقاومة، وحكمًا دوليًا للقطاع، ومجلسًا للسلام برئاسته، فإننا لا نتحدث هنا عن مجرد مبادرة سياسية، بل عن محاولة تعويض كاملة لهزيمة إسرائيلية استراتيجية، وعن تعبير فجّ عن انهيار المشروع الصهيوني في مرحلته الهجومية.
خطة ترمب جاءت كـردّ فعل مباشر على إخفاقات نتنياهو، وعلى عجز المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عن إنهاء الحرب لصالحها، أو حتى إخضاع غزة بالقوة. لقد أصبحت أمريكا ترى أن استمرار الحرب بهذه الطريقة يهدد الاستقرار الإقليمي، ويُنهك الحلفاء، ويُفسد مسارات التطبيع. ولذلك، تدخل ترمب – بشكل شخصي ومباشر – عبر ما سُمّي بـ”مجلس السلام”، ليطرح ترتيبات جديدة تتجاوز إسرائيل ذاتها.
اللافت أن الخطة لا تترك مجالًا للمقاومة للمشاركة في أي صياغة سياسية، وتفترض أنها مجرد “أداة أمنية” يجب تجريدها، تمامًا كما حدث في العراق وأفغانستان. لكنها في الواقع تؤكد – من حيث لا تدري – أن المقاومة باتت “شريكًا أمر واقع” في أي هندسة مستقبلية للمنطقة، وأن تجاهلها لن يؤدي إلا إلى تفجير جديد.
كما تعكس الخطة مأزقًا أمريكيًا متراكمًا: فبعد سنوات من تراجع الحضور الأمريكي في الشرق الأوسط، ها هي واشنطن تعود لتقود مشروعًا بديلًا لإسرائيل، تسعى من خلاله لإعادة الإمساك بخيوط المنطقة، ولكن عبر أدوات غير تقليدية: شركات أمنية، إدارة دولية، وسلطة فلسطينية معاد تدويرها.
لكن السؤال الأهم: هل يمكن لهذه الخطة أن تنجح على الأرض؟ أم أنها مجرّد وهم جديد يتكسّر على صخرة إرادة غزة وصمود شعبها؟
سادسا: الانعكاسات الاستراتيجية على إسرائيل
لم تكن خطة ترمب لإدارة غزة مجرد مناورة سياسية أو “إنقاذًا” لحليفه نتنياهو، بل كانت اعترافًا عمليًا بأن إسرائيل تواجه تحولًا استراتيجيًا عميقًا، قد يكون الأخطر في تاريخها منذ تأسيسها. لقد تجاوزت تداعيات “طوفان الأقصى” الفشل العسكري والسياسي إلى اهتزاز صورة الكيان نفسه، داخليًا وخارجيًا، كقوة ردع وهيمنة.
تآكل الردع وتراجع ثقة الحلفاء
عقيدة الردع الإسرائيلية، التي تأسست على فكرة التفوق المطلق، وتدمير العدو قبل أن يتنفس، تعرضت لضربة قاصمة. فللمرة الأولى منذ عقود، لم تستطع إسرائيل منع الهجوم، ولم تستطع الحسم، ولم تستطع فرض شروطها. بل إن المعادلة انقلبت: المقاومة هي من تملك مفاتيح التهدئة أو التصعيد.
هذا التآكل الاستراتيجي طال صورة إسرائيل أمام حلفائها كذلك. فالولايات المتحدة – رغم كل الدعم العسكري والغطاء السياسي – بدأت تبحث عن بدائل للحسم عبر “مجلس سلام دولي”. أما الأوروبيون، فقد ازدادت لديهم الأصوات التي تطالب بمراجعة الدعم المطلق لإسرائيل، خاصة مع المجازر المستمرة في غزة وارتباك الأداء العسكري والاستخباراتي.
والأخطر من ذلك، أن بعض حلفاء إسرائيل في الإقليم (مثل بعض الأنظمة العربية) بدأوا يشككون في قدرة الكيان على تأمين مصالحهم، أو حتى على حماية نفسه. مما يفتح الباب لتحولات في الاصطفافات المستقبلية، وربما لظهور قوى جديدة تملأ الفراغ الذي تتركه إسرائيل المتصدعة.
تحولات الرؤية الدولية لطبيعة الصراع
بعد طوفان الأقصى، لم يعد الصراع يُرى – دوليًا – كصراع بين دولة شرعية وتنظيمات إرهابية، بل بات يُفهم أكثر على أنه صراع تحرر وطني لشعب محاصر تحت احتلال متوحش. وقد ساهمت المجازر الموثقة، والمواقف المتزايدة لمؤسسات حقوق الإنسان، والمحاكم الدولية، في تعميق هذه الرؤية.
بل إن التماهي بين إسرائيل واليمين المتطرف الأمريكي، وظهور شخصيات مثل ترمب وبلير فضلا عن كوشنير على رأس مشروع إدارة ما بعد الحرب، يجعل كثيرًا من العواصم تشعر بالقلق من مستقبل المنطقة إذا تُركت في يد هؤلاء. وهذا ما يدفع بعض الدول للبحث عن خيارات أكثر توازنًا، ويمنح قوى المقاومة هامشًا أوسع للمناورة السياسية والدبلوماسية.
إن ما بعد الطوفان ليس كما قبله، وإسرائيل التي كانت تُملي شروطها أصبحت اليوم تبحث عمّن يُنقذ مشروعها من الانهيار.
سابعا: المقاومة: من الدفاع إلى التموضع الحيوي
في لحظة فارقة من التاريخ الفلسطيني ومنذ طوفان الأقصى، انتقلت المقاومة من وضعية الدفاع المحاصر إلى موقع الفاعل والمبادر وصانع المعادلة، حيث لم تعد تحصر أهدافها في الصمود والبقاء، بل باتت توجّه السياقات، وتعيد تعريف المعركة.
منطق المبادرة لا الاستجابة
منذ السابع من أكتوبر، ومع انطلاق عملية طوفان الأقصى، بادرت المقاومة – لأول مرة بهذا الحجم – إلى الهجوم داخل عمق الكيان، بأسلوب منظم، ومباغت، ومتصاعد. فقد كانت المعركة فعلًا خالصًا من طرفها، أرغمت فيه إسرائيل على الارتباك والملاحقة، لا على القيادة أو التحكم.
ومنذ ذلك التاريخ، لم تعد تل أبيب تملك قرار البداية أو النهاية. فقرار وقف إطلاق النار، أو قبول التهدئة، بات مشروطًا بملف الأسرى، ووقف العدوان، وضمانات بعدم العودة للاجتياح. وهذه الشروط لم تأتِ من دولة عظمى، بل من فصائل محاصرة في غزة، لكنها تملك الإرادة والسلاح والخبرة الميدانية والشعبية المتجذرة.
تأثير المقاومة على بنية الخطة الأمريكية
إن جوهر خطة ترمب يقوم على فرض ترتيبات أمنية وسياسية جديدة في غزة، تقيد عمل المقاومة، وتُخرجها من المعادلة. لكن هذه الخطة تعكس اعترافًا غير مباشر بأن المقاومة هي الطرف الحقيقي الذي يجب التعامل معه، وأن أية ترتيبات لا تمر عبره ستفشل كما فشلت “أوسلو” و”السلطة” من قبل.
ولذلك، فإن المقاومة – رغم الحصار والدمار – نجحت في أن تفرض نفسها كطرف لا يمكن تجاوزه في أي حديث عن غزة، أو عن فلسطين عمومًا. وهذا التحول لم يكن ممكنًا قبل الطوفان، حيث كانت المقاومة محاصَرة سياسيًا وعسكريًا، تُعامل كخطر يجب اجتثاثه، لا كطرف يجب مفاوضته.
صناعة التعاطف والتحشيد العالمي
إلى جانب الفعل العسكري، استطاعت المقاومة أن تستدرج تضامنًا شعبيًا وإنسانيًا عالميًا غير مسبوق، من خلال خطاب رمزي ذكي، وصمود أسطوري، ورسائل إعلامية مدروسة. وقد بات واضحًا أن صوت المقاومة بات أكثر حضورًا من صوت إسرائيل، خاصة في الجامعات الغربية، والشارع الأمريكي، ووسائل الإعلام غير الموجهة.
لم تعد المقاومة فقط بندقية، بل باتت أيضًا راية وراوية ورؤية. وهذا التحول المفاهيمي يتيح لها توسيع قاعدتها، وتعزيز عمقها الشعبي، وتجاوز الحصار السياسي المفروض عليها.
ثامنا: مستقبل غزة.. بين الحصار، والوصاية، والممانعة الشعبية
تأتي خطة ترمب في لحظة تبدو فيها غزة أمام مفترق طرق حاد، تتقاطع فيه محاولات إخضاعها وتطويعها، مع إرادة شعبية ومقاومة متجذرة تأبى الانكسار. إنها لحظة فاصلة بين ثلاثة مسارات محتملة لمستقبل غزة: استمرار الحصار، فرض الوصاية، أو تجذر الممانعة الشعبية. وكل مسار يحمل في طياته صراعات داخلية وخارجية، وسيناريوهات متعددة.
سيناريو استمرار الحصار بصيغته القديمة – الجديدة
منذ سنوات، وقطاع غزة يُخضع لحصار متعدد الأوجه: اقتصادي، سياسي، أمني، وحتى إنساني. لكن ما تقترحه خطة ترمب، هو إعادة إنتاج هذا الحصار ضمن غلاف “إعادة الإعمار” و”السلام الإقليمي”، بحيث يتم إدخال المساعدات والمشروعات بشروط أمريكية–إسرائيلية، وتحت مظلة رقابة دولية تقيد الحركة، وتراقب البناء، وتتحكم في المعابر، وتفرض التبعية السياسية.
هذا السيناريو لا يطرح إنهاء الحصار، بل إعادة هندسته على أسس أمنية تكرّس تبعية غزة وتقيد المقاومة، وقد يؤدي إلى تعزيز الانقسام الفلسطيني، وتغذية التوترات الداخلية بين من يقبل بهذه الصيغة ومن يرفضها.
سيناريو فرض وصاية دولية أو إقليمية
تشير الخطة الأمريكية إلى تشكيل “مجلس السلام” بإشراف ترمب نفسه، يضم أطرافًا دولية وإقليمية “لإدارة اليوم التالي في غزة”، مما يعني محاولة فرض وصاية سياسية وأمنية خارجية على القطاع، بدعوى حفظ الأمن، وإعادة البناء، ومنع الفوضى، وضمان عدم عودة “الإرهاب”.
ورغم أن هذه الصيغة تُسوّق باعتبارها “حلًا انتقاليًا”، إلا أنها تهدف – عمليًا – إلى نزع السيادة الفلسطينية عن غزة، وتهميش المقاومة، وتمرير مشاريع دمجها في صفقة إقليمية أكبر، تشمل التطبيع، والتصفية الناعمة للقضية الفلسطينية.
سيناريو الممانعة الشعبية واستعادة المبادرة
لكن التجربة الفلسطينية أثبتت أن أي مشروع لا يحظى بقبول شعبي، مهما كان داعموه أقوياء، لن ينجح. وقد أثبتت غزة أنها عصية على التدجين، ومقاومة للمشاريع المشبوهة، سواء جاءت عبر السلطة أو الاحتلال أو الأطراف الدولية.
ومن هنا، فإن الممانعة الشعبية – إن تم تفعيلها عبر حراك مدني مقاوم واعٍ – يمكن أن تحبط الوصاية، وتعيد بناء النموذج التحرري من الداخل، مستفيدة من زخم الطوفان، ومن الوعي المتجدد بالقضية، ومن التغيرات في الرأي العام العالمي.
إن مستقبل غزة سيتحدد من خلال تفاعل هذه المسارات الثلاثة: فإما الخضوع للحصار والوصاية، أو الثورة عليهما عبر الممانعة الشعبية والمقاومة المستمرة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: من يملك الكلمة الأخيرة؟ الشعب أم المحتل؟ الإرادة الداخلية أم الترتيبات الخارجية؟
تاسعا: الفرص الممكنة للرد الشعبي والسياسي على خطة ترمب: ما العمل؟ وما الممكن؟
رغم خطورة خطة ترمب وتفاصيلها الهادفة لتصفية القضية الفلسطينية من بوابة غزة، إلا أن لحظة إعلانها تمثل أيضًا فرصة استراتيجية لإعادة بناء موقف عربي وإسلامي وشعبي جامع، يعيد ترتيب الأولويات ويؤسس لمواجهة جديدة مع المشروع الصهيوني الأمريكي.
إن الفرص المتاحة ليست مجرد ردود فعل عاطفية أو انتقادات موسمية، بل هي إمكانات عملية قابلة للتفعيل، إذا توفرت الإرادة السياسية والشعبية، وتم تجاوز حالة التراخي أو الانقسام أو انتظار التغيير من الخارج.
أولًا: على المستوى الشعبي العربي والإسلامي
- تحشيد الوعي الجماهيري عبر الحملات الإعلامية، والنقابات، والجامعات، ومنصات التواصل، لكشف تفاصيل الخطة، وفضح أهدافها الحقيقية، وربطها بمشروع “إسرائيل الكبرى”.
- تنظيم الفعاليات الشعبية الموحّدة من مظاهرات، وقوافل تضامنية، واعتصامات أمام السفارات المعنية، خاصة الأمريكية والإسرائيلية، وضد السفارات التي تدعم المشروع التطبيعي.
- إحياء منطق “الرباط الشعبي” ومقاطعة الجهات والشركات الداعمة للاحتلال، وإعادة تفعيل حركة المقاطعة BDS بطريقة شعبية–ميدانية وليست فقط نظرية.
ثانيًا: على مستوى النخب الفكرية والسياسية
- إنتاج خطاب سياسي وفكري بديل يتحدى منطق “الإدارة بالأزمات”، ويقترح رؤىً لمشروع تحرري جامع يتجاوز الانقسام الفلسطيني، ويُفشل الهيمنة الدولية.
- بناء تحالفات ناعمة بين القوى الحية داخل الوطن العربي، من إسلاميين وقوميين ويساريين، على أرضية مركزية فلسطين ورفض التبعية والهيمنة.
- تحويل غزة إلى عنوان جامع لكل القوى الحرة، لا فقط باعتبارها رمزًا للمعاناة، بل بوصفها نموذجًا للممانعة والإرادة والتحرر.
ثالثًا: على المستوى السياسي والديبلوماسي
- ممارسة الضغط السياسي والقانوني على الحكومات التي تتماهى مع الخطة، وفضح المتواطئة أمام شعوبها.
- التواصل مع قوى دولية معارضة للنهج الأمريكي–الإسرائيلي، وتوسيع دائرة التحالفات داخل الأمم المتحدة، ومجلس حقوق الإنسان، والمحاكم الدولية.
- استثمار التباينات داخل المعسكر الغربي نفسه، وخاصة بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، لصالح الضغط على إسرائيل.
رابعًا: داخل الساحة الفلسطينية
- رفض أي مشاركة فلسطينية في “مجلس السلام” المقترح، وفضح من يرضى بذلك.
- تعزيز الوحدة الميدانية في غزة بين فصائل المقاومة، وتشكيل قيادة موحدة لمواجهة المرحلة القادمة.
- استثمار معركة طوفان الأقصى سياسيًا وأخلاقيًا لإعادة بناء الثقة بين الشعب وفصائل المقاومة، وإحياء البعد الاستراتيجي للصراع.
خطة ترمب ليست قدرًا مقدورًا، بل مشروع عدواني يمكن كسره بوعي الشعوب، وصلابة المقاومة، وإرادة القوى الحيّة. والمطلوب اليوم ليس فقط “الرفض”، بل إعادة تنظيم الصفوف، وطرح بديل تحرري، واستنهاض الأمة من جديد.
عاشرا: الخاتمة والتوصيات:
خطة ترمب لغزة ليست مجرد وثيقة سياسية لوقف إطلاق النار، بل هي خارطة طريق استراتيجية لتصفية القضية الفلسطينية، وإعادة ترتيب المنطقة على أسس جديدة تُراعي أولويات المشروع الصهيوني–الأمريكي: الأمن لإسرائيل، والهيمنة لأمريكا، والوظائف التبعية لحلفائها من العرب.
لقد كشفت الخطة بوضوح عن بنية تفكير إدارة ترمب وتحالفها مع نتنياهو، ونيتهما إخراج المنطقة من حالة المقاومة إلى حالة الإدارة، واستبدال منطق التحرر الوطني بمنطق “الإغاثة” و”إعادة الإعمار”، وتسويق الاحتلال كجزء من الحل لا أصل المشكلة.
لكن كل هذا، رغم خطورته، يفتح في المقابل فرصًا استراتيجية للمواجهة، إذا ما أُحسن استثمارها شعبيًا وسياسيًا وإقليميًا، وأعيد بناء الفعل الجماعي المقاوم.
التوصيات المقترحة:
أولًا: في المجال السياسي والاستراتيجي
- الرفض الشعبي للخطة بالكامل، واعتبارها جزءًا من المشروع الصهيوني الأكبر لتصفية القضية الفلسطينية.
- بلورة موقف فلسطيني موحد ضد المجلس الأمريكي للسلام ومقترحات بلير، وتجريم أي قبول بها.
- إطلاق حملة عربية إسلامية لمواجهة الخطة على المستويين الشعبي والنخبوي، ووضعها في سياق “سايكس بيكو جديد”.
ثانيًا: على مستوى مراكز الفكر والمقاومة الشعبية
- إعداد دراسات استراتيجية تفصيلية تفضح الخطة بندًا بندًا، وتحلل مضامينها الرمزية والميدانية.
- تفعيل دور “مراكز المقاومة الناعمة” لمواجهة الحرب الرمادية: من إعلام وتحريض ومقاطعة ثقافية وسياسية.
- تسويق نموذج غزة كرمز للممانعة الحضارية، بدل تقديمها كعبء إنساني أو أمني.
ثالثًا: على المستوى العربي والإسلامي
- دعوة الشعوب والقوى الحية لرفض أي مشاركة في مشاريع إدارة غزة ما بعد الحرب تحت الوصاية الأمريكية.
- بناء جبهة إقليمية–شعبية تتبنى فلسطين كقضية مركزية وتقاوم مشاريع التطبيع والتمرير الإجباري للخطة.
- الضغط على الدول الحليفة للمشروع الأمريكي لكشف تواطئها ومطالبتها بالانحياز لحقوق الشعب الفلسطيني.
رابعًا: في المحور الدولي
- تحريك الدعاوى القانونية ضد جرائم الاحتلال في غزة كإحدى أدوات تقويض شرعية مشاريع إعادة الإعمار الموجهة سياسيًا.
- استثمار الانقسامات الغربية حول إسرائيل وتوسيع شبكة الحلفاء المناصرين للمقاومة وحقوق الشعب الفلسطيني.
- رفض وصاية توني بلير ومشروعه لإدارة غزة باعتباره امتدادًا للاستعمار، وتقديم بدائل إنسانية من داخل الأمة.
خطة ترمب لغزة ليست نهاية المعركة، بل بدايتها. إنها تكشف أن الحرب لم تكن على حماس فقط، بل على روح التحرر في الأمة كلها، وعلى المشروع المقاوم من جذوره. لكن تلك الخطة تحمل في طيّاتها بذور فشلها، إذا ما واجهها وعيٌ شعبي، وخطاب سياسي جاد، وتحالفات استراتيجية أصيلة.