مقالات وآراء

د. أحمد أويصال يكتب: الاغتراب الثقافي في الدول الإسلامية

الاغتراب الثقافي هو ابتعاد الفرد عن جذوره الثقافية وقيم مجتمعه، إما بإرادته أو نتيجة ظروف اجتماعية واقتصادية خارجة عن إرادته.

ينعكس هذا الشعور في القلق والاكتئاب وضعف الانتماء، ويظهر اجتماعيًا في صعوبة الاندماج والميل أحيانًا للتطرف.

وتُعدّ العولمة، والهجرة، والتحولات الاجتماعية السريعة من أبرز أسباب تفاقم هذه الظاهرة، التي وإن لم تقتصر على المسلمين، فإنّ فهمها داخل المجتمعات الإسلامية ضروري للحفاظ على الهوية الثقافية والتوازن الاجتماعي.

تُعدّ العولمة من أبرز الأسباب الرئيسة للاغتراب الثقافي.

فمع تطوّر وسائل الاتصال وانتشار الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، أصبحت الثقافة الغربية – من خلال أفلام هوليوود ومنصّات مثل نتفليكس – تنتشر في كل أنحاء العالم.

ونتيجة لذلك، يتجه العديد من الشباب المسلمين نحو أنماط حياة جديدة تختلف عن تقاليد وآداب وعقائد آبائهم وأمهاتهم.

هذا التأثير يؤدي إلى مشكلات في الانتماء والولاء، سواء للدين أو للوطن، ويخلق حالة من الارتباك والصراع بين الأجيال. بل إن هذا الاغتراب قد يسهّل – كما في حالة تنظيم داعش – انزلاق بعض الأفراد نحو التطرف والعنف.

إنّ ظاهرة الاغتراب الثقافي في العالم الإسلامي ليست وليدة العصر الحديث، بل تمتد جذورها إلى الحقبة الاستعمارية حين فُرضت الثقافة الغربية وهيمنتها الفكرية والتقنية على المجتمعات الإسلامية، مما ترك أثرًا عميقًا في عقول النخب المتعلمة ولا تزال تأثيراته مستمرة حتى اليوم.

وفي القرن العشرين، شهدت دول مثل تونس – التي خضعت للاستعمار الخارجي – وتركيا – التي واجهت شكلًا من أشكال الاستعمار الداخلي – موجات من العلمنة فرضتها الدولة، فأدت إلى فجوة ثقافية بين النخب الحاكمة والجماهير المسلمة، ولا تزال مظاهر هذه القطيعة تتكرر بدرجات متفاوتة في دول إسلامية أخرى. 

كما تشهد المجتمعات الإسلامية مظاهر متعددة لعدم الاستقرار السياسي من أزمات وانقلابات وحروب أهلية تسببت في نزوح أعداد كبيرة من السكان، كما حدث في الصومال والعراق وسوريا، ويُضاف إليها اليوم السودان الذي يشهد موجات هجرة ضخمة نحو الخارج، وغالبًا إلى الدول الغربية حيث يواجه المهاجرون ضغوطًا ثقافية وتمييزًا وشعورًا متزايدًا بالضعف والاغتراب في بيئات تختلف جذريًا عن ثقافتهم وهويتهم الأصلية.

إنّ الهجرات الطوعية التي نشهدها اليوم – وخاصة نحو الغرب – تعرّض المسلمين لثقافات مختلفة جذريًا عن ثقافاتهم الأصلية.

ففي البلدان التي يصلون إليها، يجدون أنفسهم بين خيارين صعبين: إما الاندماج الكامل الذي قد يؤدي إلى الذوبان الثقافي، أو مواجهة العزلة والتهميش الاجتماعي.

ورغم أن الكثير منهم يهاجرون بإرادتهم، إلا أنهم يصطدمون هناك بانتشار الانحرافات الجنسية والمشكلات الأخلاقية والنزعات الإباحيّة، مما يضع الآباء المسلمين في مواقف حرجة.

كما أن تعليم الأطفال مبكرًا حول الجنس، وفرض مفاهيم مثل «الحرية الجنسية» و»LGBT» تحت شعارات المساواة وحقوق الإنسان، يشكّل تحديًا كبيرًا للأسر المسلمة.

وبالمثل، يتعرض مفهوم الحلال والحرام للتهديد أو التآكل، ويواجه المسلمون المتمسكون به صعوبات جمّة في التكيّف مع تلك البيئات الجديدة.

إنّ تزايد معدلات التحضّر في المجتمعات الإسلامية وما يصاحبه من الهجرة من الريف إلى المدن قد أدى إلى نوع من الاغتراب الثقافي، إذ بدأت القيم الدينية والتقاليد الاجتماعية التي كانت سائدة في الحياة الريفية بالضعف والانحسار أمام أنماط الحياة الحضرية الحديثة، مما مهّد لظهور شخصية أكثر انفتاحًا وطابعًا كوزموبوليتيًا.

ومع ارتفاع مستويات الرفاهية، أخذت الروابط القبلية في دول الخليج تتراجع، بينما برزت النزعة الفردية بشكل متزايد.

كما أن التعليم المتوسع الذي يُطرح في كثير من الدول الإسلامية بوصفه وسيلة للتنمية والتحديث، أسهم في تغيير نظرة الأفراد إلى الأسرة والعمل، وأعاد تشكيل منظومة القيم والعلاقات الاجتماعية في المجتمعات المسلمة.

لمعالجة مشكلة الاغتراب الثقافي المتزايدة بين الشباب في الدول الإسلامية، لا بد من تعزيز الحوار بين الأجيال القديمة والجديدة (وخاصة جيل «زد») لإيجاد فهم مشترك يعيد التوازن الثقافي.

ويمكن دعم هذا الهدف من خلال برامج تُعيد إحياء القيم الإسلامية والتقليدية وتغرس في الشباب روح الاعتزاز بهويتهم وثقافتهم.

كما يجب أن تتجه المؤسسات التعليمية إلى تطوير مناهج بديلة مستمدة من قيمنا بدلًا من نسخ النماذج الغربية، وأن تُسهم الأعمال الثقافية كالأفلام والمسلسلات في ترسيخ الثقة بالتاريخ والحضارة الإسلامية.

ولن يتحقق الحد من الاغتراب الثقافي إلا عبر بناء نظام تعليمي وطني حديث يُمكّن الشباب من تنمية قدراتهم داخل أوطانهم، مع حماية من يهاجرون منهم إلى الخارج من خطر الذوبان الثقافي وفقدان الهوية.

المصدر: الشرق

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى