شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: أوراق ليبرالية نقد العقل أم اغتياله؟ لماذا في مواجهة أخرس (1)

هذه الأوراق هي محاولة لبعثِ حوارٍ مؤجل، ومشروعٍ فكريٍّ بدأته منذ مطلع التسعينات حين أصدرتُ كتابي الصغير «الليبرالية هي الحل».
كان ذلك في زمنٍ كان مجردُ النطق بكلمة ليبرالية يُعدُّ مغامرةً فكريةً وربما تهمةً سياسية، لما عانتهُ هذه الكلمة من تشويهٍ وخلطٍ والتباسٍ متعمّد، خلطٍ بين الليبرالية المصرية التي وُلدت من رحم الوطنية والعقلانية والحرية، وبين أنماطٍ أخرى من التفكير الليبرالي في العالم، قد لا تتّفق كلها مع جذورنا ولا مع ملامح تجربتنا التاريخية.

هذه السلسلة من أوراق ليبرالية ليست عودةً إلى الوراء، بل امتدادٌ لنهرٍ فكريٍّ بدأ قبل عقود.
هي محاولة لإضاءة ما أُطفئ عمدًا في وعينا، وإعادة قراءة مشروعٍ يؤمن بأن الحريةَ ليست شعارًا سياسيًا فحسب، بل هي أسلوبُ تفكيرٍ، ومنهجُ حياةٍ، ومعيارُ صدقٍ في كل ما يُكتب ويُقال. ومن هنا تأتي هذه الورقة الأولى بعنوان: نقد العقل أم اغتياله؟

ليست معركةُ العقل في عالمنا العربي مع خصمٍ محدّد، بل مع ظلالٍ متراكمةٍ من الخوف، والوراثة، والتقليد.
تلك الظلال التي سكنت وجداننا حتى صار الشكُّ تهمة، والسؤالُ جريمة، والاختلافُ خروجًا عن النص. في كل زمنٍ يُغتالُ فيه العقل، يُدفنُ معه حلمُ الإنسان بالحرية، لأن الحريةَ لا تُولدُ إلا من رحمِ الفكر، ولا يُكتبُ لها البقاءُ إلا في أرضٍ يُروّيها الوعي.

حين كتب برهان غليون كتابه الشهير «اغتيال العقل»، لم يكن يطلقُ رصاصةً على الماضي، بل كان يحاولُ أن يُسعفَ الحاضرَ بضمادةٍ من الوعي.
لم يكن هدفهُ أن يشيّع جنازةَ العقل العربي، بل أن يصرخَ في وجهِ من تواطؤوا على إسكاته. فالاغتيالُ هنا ليس جريمةَ فردٍ، بل مؤامرةُ ثقافةٍ كاملةٍ ضدّ أداةِ حريتها الأولى: الفكر.

في هذا العملِ الفكريّ الفذّ، لا يتحدّث غليون عن «العقل» كمفهومٍ فلسفيٍّ مجرد، بل ككائنٍ اجتماعيٍّ مريض، سُقيَ منذ قرونٍ بخليطٍ من التقاليد والخوف والفقهِ المتصلّب والسياسةِ التي ارتدت عباءة الدين.
أراد أن يقول إننا لم نُغتل برصاصةٍ، بل بفكرةٍ… وإن قاتلنا ليس الآخر، بل ذواتنا حين سلّمنا عقولنا طوعًا لمحراب السلطة، ولسوط الفقيه، ولصنم الجماعة.

الاغتيالُ في تعريفه ليس فعلًا ماديًا، بل منظومةُ تعطيلٍ متوارثة، تبدأ من المدرسة، ولا تنتهي عند المنبر.
هي سلسلةُ أصفادٍ من المفاهيم الجاهزة، تجرّنا من التفكير إلى التكرار، ومن السؤال إلى التسليم، ومن النقد إلى التصفيق. وهكذا تتحوّلُ الذاكرةُ الجماعية إلى مقبرةٍ للأسئلة، ويغدو العقلُ العربيّ متحفًا للنصوص لا مختبرًا للأفكار.

لم يكن غليون يهاجم التراث، بل الجمودَ الذي حوّل التراثَ إلى وثنٍ لا يُمسّ.
كان يطالبُ بعقلٍ جديدٍ لا يخاصمُ الإيمان، بل يستعيدُه من أيدي المتاجرين به. عقلٍ يرى أن الدينَ جوهرُ الحريةِ لا سلاحُ الوصاية، وأن التراثَ حيٌّ فقط حين نُحسن قراءتَه، لا حين نحرسُ رُكامه.

في رؤيته، يصبحُ «اغتيالُ العقل» مرادفًا لـ«اغتيالِ الإنسان».
فالعقلُ هو عنوانُ كرامتنا الوجودية، ومفتاحُ خلاصنا من الاستبداد السياسي والفكري معًا. وما لم نستعد حريةَ التفكير، فلن نتحرّر من عبوديةِ الشعار، ولا من طغيانِ مَن يظنّ نفسه ظلَّ الله في الأرض.

هنا، يلتقي فكرُ غليون مع سؤالنا الأبدي: هل مشكلتنا في «العقل» ذاته أم في «نظامِ تشغيلِه»؟
هل هو بحاجةٍ إلى إصلاحٍ أم إلى بعثٍ جديد؟ وهل يكفي أن نقرأ «اغتيالَ العقل» كتحذيرٍ من الماضي، أم كإعلانِ ثورةٍ فكريةٍ ضد حاضرٍ يقتلُ الأسئلة كلَّ يوم؟

لا يمكن فهم مشروع غليون دون أن نقرأه في سياق ما بعد الهزيمة.
فالهزائمُ العسكريةُ والسياسيةُ التي منينا بها لم تكن إلا أعراضًا لمرضٍ أعمق، اسمه الاستبداد. لقد اغتيلَ العقلُ يومَ صمتَ المفكرون خوفًا، ويومَ صار الحاكمُ «وصيًّا على الفهم»، ويومَ خُلِطَ بين نقدِ السلطة ونقدِ الوطن.

في المقابل، يرى الفكرُ الليبرالي أن أولى خطواتِ النهضة هي إعادة الاعتبار للعقل الحرّ بوصفه الضمانةَ الوحيدةَ ضد كل طغيانٍ باسم الدين أو القومية أو الأمن.
فالليبرالية ليست مذهبًا اقتصاديًا فحسب، بل أخلاقُ عقلٍ يرفض أن يُقاد بالعصا، ويجرؤ على قول «لماذا؟» في وجهِ من يقولون «اسكت!».

برهان غليون لا يدعونا إلى القطيعة مع تراثنا، بل إلى مصالحةٍ نقديةٍ معه، تقوم على الفهم والتحليل لا على التقديس الأعمى.
فالنقدُ عندهُ شكلٌ من أشكال الحبّ الواعي، حبٌّ يرفضُ أن يرى الحبيبَ أسيرًا لضعفه. ولذلك، لم يكن «اغتيال العقل» كتابَ تشاؤم، بل بيانَ إنقاذٍ لأمةٍ تُحبّ الماضي أكثر مما تحبّ المستقبل.

إن أخطر ما في اغتيال العقل ليس موتُ الفكرة، بل موتُ الشك.
لأن الأمم لا تنهض بالإجماع، بل بالاختلاف. ولا تتقدّمُ باليقين الأعمى، بل بالبحثِ الذي لا يتوقف. فالذي لا يَشكّ، لا يُفكّر. والذي لا يُفكّر، لا يَعيش، بل يُدار.

اليوم، ونحن نرى تكرارَ الاغتيالات ذاتها بأدواتٍ جديدة — من إعلامٍ يُغذّي الغيبوبة إلى تعليمٍ يقتل الفضول — يبدو كتاب غليون أشبه بمرآةٍ للمستقبل لا للماضي.
وكأن الرجل كان يرى، بعين المثقف، ما سيحدث حين تتحالفُ السلطةُ مع الخوف، فيُساقُ العقلُ إلى المقصلة باسم «الثوابت».

لذلك، فإن السؤال الحقيقي ليس: هل اغتيلَ العقل العربي؟ بل: هل بقي فينا من يجرؤ على التفكير في إنقاذه؟
لأن الفكرَ الحرّ هو آخرُ خطوط الدفاع عن كرامة الإنسان، فإذا صمتَ العقلُ تكلّمَ الطغيان، وإذا اغتيلَ السؤالُ دُفنَ الوطن.


مرفق: أرشيف لمجسمات لشخصيات مصرية ليبرالية ضمن أعمال المركز الثقافي المصري في إسطنبول التابع لجمعية الشرق للإعلام والثقافة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى