
في فجر السابع من أكتوبر عام ألفين وثلاثةٍ وعشرين، دوّى في سماء فلسطين صوتٌ أعاد للزمان ذاكرته.
صوتٌ لم يكن انفجارًا عابرًا، بل صرخةَ شعبٍ قرّر أن يكتب فصله من التاريخ بدمه وإيمانه.
كان ذلك اليوم بداية مرحلة جديدة، كُسرت فيها أوهام الردع، وسقطت فيها أسطورةُ الجيشِ الذي طالما روّج الغربُ والإعلامُ الصهيوني أنه «الجيش الذي لا يُقهر»؛ تلك المقولة التي وُلدت بعد نكسة سبعةٍ وستين، وظلّت تُردَّد لعقودٍ بوصفها رمزًا للتفوّق المطلق.
غير أنَّ طوفان الأقصى نسف هذه الأسطورة نسفًا، إذ عجز هذا الجيش — رغم حرب الإبادة الشاملة والحصار والتجويع على مدار عامين — عن تحرير أسراه أو تحقيق أيٍّ من أهدافه المعلنة، بينما استطاعت المقاومة، بإمكاناتها المحدودة، أن تُذلَّه ميدانيًا ومعنويًا، وتُثخن به ضربًا حتى صار يعيش أزمته الوجودية الأعمق منذ قيامه.
بل إنَّ أجهزته الأمنية والاستخباراتية، التي طالما تباهى بها أمام العالم، عجزت عن التنبؤ بموعد الطوفان أو رصده، فضلًا عن إيقافه أو التصدي له؛ لتسقط بذلك أسطورة “العين التي لا تنام”، ولينكشف أن منظومة الأمن الإسرائيلية لم تكن سوى وهْمٍ صنعته الدعاية أكثر مما صنعته القوة.
لقد كان طوفان الأقصى أكثر من هجومٍ عسكري؛ كان حدثًا مفصليًا في الوعي الإنساني والسياسي، مثَّل لحظة انكسارٍ للمشروع الصهيوني، وبداية إعادة تشكُّلٍ عميقة في موازين القوى والرواية والتاريخ.
زلزلة الكيان
لم يكن الطوفان مغامرةً أو اندفاعًا عاطفيًا كما حاولت الدعاية الغربية تصويره، بل زلزالًا استراتيجيًا أصاب كيان الاحتلال في عمقه الأمني والعقائدي.
فقد كُسرت صورة التفوق المطلق، وتهاوت أسطورة الأجهزة الأمنية التي تغنّت بها تل أبيب، وبدأ الشرخ يتّسع بين المجتمع الإسرائيلي وكيانه الغاصب، بين جيشه ونُخَبه السياسية، بين شعاراته وأزماته الداخلية.
الانقسامات التي عاشها الكيان قبل الطوفان — حول هوية الدولة، وقانون القومية، وصراع اليمين المتطرف مع المؤسسة العسكرية — تفاقمت اليوم حتى صارت تهدد نسيجه من الداخل.
بل إنّ محللين إسرائيليين أنفسهم يقرّون أن «ما بعد السابع من أكتوبر لن يكون كما قبله»، وأنّ إسرائيل فقدت ما كانت تعتبره رصيدها الأهم: هيبة الردع وثقة العالم بها.
صمود الإنسان
في المقابل، وقف الإنسان الفلسطيني في غزة شامخًا وسط الركام، كمن يقول للعالم: إنّ الجسد قد يُقهر، لكن الروح لا تُقهر.
عامان من الحصار والنار، ولم تنكسر الإرادة.
الأمهات اللواتي قدّمن أبناءهن، والمجاهدون الذين خرجوا من تحت الرماد ليواصلوا القتال، والأطفال الذين حفظوا أسماء الشهداء بدل الألعاب — جميعهم كتبوا ملحمةً خالدة عنوانها: أنّ الحق لا يموت وإن غاب ناصروه.
تحوّل الفلسطيني في الوعي العالمي من “الضحية الصامتة” إلى رمزٍ للكرامة والمقاومة، وارتفعت الأصوات في العواصم الغربية تندد بالاحتلال وتدعو إلى مقاطعته ومحاسبته.
لقد انهار جدار الصمت، وتغيّر ميزان الرواية: الجلاد انكشف، والضحية استعادت صوتها.
مشروع استعماري يتهاوى
منذ وعد بلفور المشؤوم، كان المشروع الصهيوني أداةً استعماريةً لتمديد نفوذ الغرب في الشرق بعد سقوط الدولة العثمانية، ومحاولةً لحل “المشكلة اليهودية” الأوروبية على حساب الأرض العربية.
لكنّ هذا المشروع القائم على الإقصاء والعنصرية يعيش اليوم لحظة ارتدادٍ تاريخيٍّ غير مسبوقة.
فالعالم الذي تغاضى طويلًا عن جرائم الاحتلال بدأ يرى الحقيقة بلا أقنعة، والمنظومة الدولية التي وفّرت له الغطاء تواجه اليوم انهيارًا أخلاقيًا صارخًا أمام شاشات العالم.
لقد صارت إسرائيل في نظر الملايين رمزًا للتمييز والإبادة والاحتلال، لا لضحايا التاريخ بل لجلاديه.
وهكذا عاد السؤال الوجودي إلى الواجهة: هل يمكن لمشروعٍ استعماري أن يستمر في القرن الحادي والعشرين؟
تحولات الوعي وإعادة تعريف الموازين
إنّ ما ميّز طوفان الأقصى أنه لم يُغيّر فقط المعادلة الميدانية، بل أعاد تعريف الموازين ذاتها:
ميزان القوة، وميزان الشرعية، وميزان الوعي الإنساني.
فمنذ ذلك اليوم لم تعد إسرائيل تُرى كـ«دولةٍ تحمي نفسها»، بل كقوةٍ غاشمة تقتل المدنيين وتستبيح القيم.
ولم يعد الفلسطيني يُرى كمتمردٍ على النظام، بل كمقاتلٍ من أجل العدالة والحرية.
لقد امتدّ أثر الطوفان إلى وجدان الشعوب في الشرق والغرب معًا، فبدأت مرحلة جديدة من الاستفاقة العالمية تجاه جوهر القضية.
وها هو العالم يعيد اكتشاف أن الضمير الإنساني يمكن أن ينتصر حين تهتز الموازين القديمة.
خاتمة
في الذكرى الثانية لطوفان الأقصى، نترحّم على الشهداء، وندعو بالشفاء للجرحى، والفرج للأسرى، والصبر لأهل غزة الصامدين الذين أثبتوا أن الإنسان قد يُقهر جسدًا، لكنه لا يُقهر روحًا.
إنّ زلزلة الكيان وصمود الإنسان ليست مجرّد وصفٍ لحربٍ عابرة، بل عنوانٌ لمرحلةٍ جديدة في تاريخ الصراع، مرحلةٍ تتجاوز السلاح إلى الوعي، وتتجاوز الحدود إلى الضمير الإنساني العالمي.
قد يتأخر النصر، لكنه حين يأتي، سيُعيد صياغة التاريخ كما أعاد الطوفان تعريف الموازين.