مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: لماذا… خالد عناني؟.. ومشروع الشرق للحضارة المصرية؟

لم يكن بيني وبين خالد عناني طريقٌ أو معرفة. لم أجلس معه على طاولة، ولم أتبادل معه سلامًا أو خلافًا. هو من جيلٍ لاحقٍ لرحيلي عن مصر، وأنا من زمنٍ مضى قبل ظهوره إلى العلن.

وربما — لو سُئلت — لاخترت فاروق حسني ممثلًا لمصر في ذاك المقام. وربما — لو حكمتُ بالعاطفة — لترددتُ في منحه هذا التشريف.

لكنني، حين بلغني نبأ فوزه، شعرتُ بفرحٍ نقيّ، يشبه دمعةً تفرُّ من عينٍ مُحبّةٍ للوطن، فرحُ مصريٍّ يرى عَلَم بلاده يعلو، أيًّا كان من يحمله.

إن مصر — يا أصدقائي — لن تعود إلى مكانتها بإصلاحاتٍ سياسيةٍ أو اقتصاديةٍ فحسب، بل بثورتها الثقافية الكبرى، بتلك القوة الناعمة التي كانت تفتح القلوب قبل العقول، وتقود الأمم لا بالسيف، بل بالفكر، ولا بالذهب، بل بالكلمة.

حين كانت مصر منارة الشرق، كان العرب والعالم ينهلون من نيلها علمًا وفنًّا ونورًا.

وحين خفتت أنوارها الثقافية، تجرأت عليها الأمم الصغيرة، وتقدمت الصفوف وهي تلوك اسمها بغير هيبة.

الثقافة ليست كمالًا، بل قَدَرٌ وضرورة. هي أمنٌ قوميٌّ في جوهره، وسلاحٌ لا يُرى، لكنه يحمي من الهزيمة والانكسار. فحين تُهزَم الروح، لا تُنقذها الجيوش.

وحين تُمحى الذاكرة، لا تُعيدها الخطابات. الثقافة هي جدارُ الهوية حين تهبُّ العواصف، هي المناعة التي تصون الوجدان من الانسلاخ، هي الحارس الذي لا ينام، في زمنٍ تُختطف فيه الأوطان من عقول أبنائها لا من حدودها.

منذ أن أسسنا المركز الثقافي المصري في إسطنبول، لم نرَ في ذلك مناكفةً لنظامٍ، ولا تمرّدًا على دولةٍ نحبها مهما خاصمتنا.

كان حلمنا أوسع من السياسة، وأعمق من الإعلام، أن نعيد لمصر وجهها الجميل — وجه الحضارة والفكر والريادة — أن نقول للعالم: هذه مصر التي تعرفونها… والتي نعرفها نحن أكثر.

أردنا أن يكون المركز نافذةً تُطلّ منها روح مصر على العالم، بلدٌ تلتقي على أرضه الفرعونية بالأقباط والمسلمين، ويصنع من تعدده وحدةً تضيء الشرق.

أن نبني متحفًا للحضارة لا ليحفظ التماثيل، بل ليحفظ الذاكرة.

أن نعرض صورة مصر في لوحاتٍ، وصوتها في الموسيقى، وكرامتها في كلماتٍ لا تموت.

عجبتُ — وحقّ لي أن أعجب — من أولئك الذين يسألوننا باستنكار: لماذا تهتمون بالثقافة؟ ألم يكفكم ما في السياسة من معارك؟ وكأن الثقافة نزهة، أو هروبٌ من صخب الواقع!

هي — في حقيقتها — الواقع نفسه، وجهه الأجمل، وروحه الأعمق، وسرّ خلوده.

الثقافة، يا سادة، ليست كتابًا يُقرأ، ولا مسرحًا يُعرض، إنها كل ما نؤمن به ونمارسه دون أن ندرك، هي لغتنا، وملابسنا، وصلاتنا، وأغانينا، هي إيماننا، وأخلاقنا، ووعينا، هي خلاصة الإنسان فينا.

من أراد أن يهدم أمة، فليبدأ بطمس ثقافتها، وتشويه تاريخها، وإضعاف لغتها. فحين تنسى الشعوب ذاكرتها، يُسرع العالم في نسيانها.

وهكذا تبدأ الهزيمة، لا في ساحات القتال، بل في سطور الكتب، وعلى ألسنة الأجيال.

الأمن الثقافي ليس انغلاقًا، بل انفتاحٌ واعٍ على العالم، يحاور دون أن يذوب، ويتطور دون أن يتخلى عن جذوره.

هو قدرة الثقافة على حماية ذاتها بالتجدد، وعلى حفظ هويتها بالإبداع. هو الحرية التي تعرف كيف تحمي نفسها من العبث، والانفتاح الذي لا يفرّط في الأصل.

لهذا فرحت بخالد عناني، ليس لشخصه، بل لما يُمثله فوزه من نَفَس مصريٍّ أصيل، يذكّرنا أن مصر — مهما طال غيابها — ما زالت قادرة على أن تقول كلمتها في حضرة العالم.

وأن مشروع الشرق للحضارة المصرية ليس مجرد جدارٍ يُقام أو متحفٍ يُشيَّد، بل هو عودة الروح إلى الجسد، والضوء إلى المئذنة، والحلم إلى القاهرة القديمة… حيث بدأ التاريخ، ولا يزال ينتظر من يكتبه من جديد.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى