
“إن أول معركة يخسرها المهزوم هي معركة تسمية الأشياء بأسمائها الصحيحة”. جورج أورويل.
في زمن الانسداد السياسي الذي يشهده العالم العربي، حيث تضيق مساحات الفعل الحر وتشتد قبضة الأنظمة، لم يعد الصراع محصورا في مؤسسات الدولة، أو في التنافس على المناصب.
جوهر المعركة اليوم يتمثل في القدرة على إنتاج المعنى وصياغة الرواية التي تمنح الأحداث دلالتها وتحدد أفق المستقبل.
فكما نبه أنطونيو غرامشي، الهيمنة لا تمارَس بالقوة العارية فقط، وإنما بقدرة النظام على إقناع الناس بأن وضعه هو الطبيعي والوحيد الممكن.
لقد استوعب الاستبداد الحديث قواعد اللعبة الجديدة. لم يكتفِ بتوظيف القوة الأمنية أو البيروقراطية فحسب، بل تحول إلى مهندس ماهر للسردية، يصوغ روايته الخاصة ويغمر بها الفضاء العام.
يقدم نفسه على أنه الضامن الأوحد للاستقرار والحامي الحقيقي للسيادة الوطنية، فيما يحرص على تشويه البدائل الديمقراطية، واتهامها بالفوضى والعجز وتعطيل الدولة، وضرب الوحدة الوطنية، والخيانة والتآمر الخارجي.
هنا، يصبح تحليل الخطاب- كما أشار بيير بورديو- خطوة ضرورية لفهم الكيفية التي يتحول بها العنف الرمزي إلى أداة ترسخ الشرعية، وكيف تبنى الهيمنة أولا على مستوى المعنى قبل أن تتجذر في مؤسسات الدولة.
وهذا التحليل هو الوسيلة الحاسمة لشق طريق مختلف، ومواجهة هذه الهيمنة بفاعلية.
الاستبداد كسردية مهيمنة
في السنوات التي تلت موجة الثورات العربية في 2011، شهد العالم العربي، والمثال التونسي على وجه الخصوص، انقلابا سرديا عميقا.
فبعد أن مثلت الديمقراطية أفقا للتحرر والكرامة، تحولت في نظرة جزء كبير من الشعب إلى مصدر للفوضى والتدهور الاقتصادي والاجتماعي.
وتحول العقد الأول من الانتقال إلى ما سُمي بـ”العشرية السوداء”، في خطاب يختزل كل تعقيدات المرحلة في اتهام الديمقراطية ذاتها، ويقدم العودة إلى الحكم الفردي المركزي كخيار وحيد لضمان الاستقرار، متجاهلا ما رسخته الثورة من مكاسب رمزية وحقوقية ومؤسساتية.
لقد صيغت هذه الرواية عبر ماكينة إعلامية وخطاب سياسي وديني متكرر، جعل من الانقلاب على الثورة يبدو نتيجة طبيعية لا تحتمل النقاش.
هكذا تحول تعطيل المؤسسات المنتخبة يوم 25 يوليو/تموز 2021 إلى لحظة تتويج لهذا الانقلاب السردي، حيث جرى تبرير تركيز السلطة في يد واحدة كحل نهائي لا بديل عنه.
غير أن هذا المسار، في عمقه، لم يكن سوى عملية هندسة ممنهجة لاستثمار الإحباط الشعبي، وتوظيف مشاعر الخيبة الجماعية من أجل شرعنة الاستبداد الجديد.
فغدا الحلم الديمقراطي نفسه موضوعا للتبخيس والازدراء، حتى مات في عقول وقلوب الكثيرين.
وتحولت الحرية إلى عبء صوروه وكأنه فوق طاقة البلاد. .
والنتيجة كانت إنتاج زعيم شعبوي في صورة المخلص من “الفوضى الديمقراطية”.
أساطير الردة الديمقراطية
الاستبداد لا يكتفي بالسيطرة الأمنية، بل يبني شرعيته على أساطير مؤسسة تجد صدى واسعا في المخيال الشعبي: أن الحريات السياسية لا تطعم خبزا، وأن تعدد الأصوات يشل الدولة ويهدد وحدتها، وأن المطالب الديمقراطية ليست سوى امتداد لتدخلات أجنبية.
هذه الأساطير تشكل جدارا نفسيا يحاصر الأفق العام، وتحول الاستقرار السلطوي إلى الخيار الوحيد الممكن. نجاحها لا يقوم على منطق متماسك بقدر ما يقوم على قدرتها على استثمار الخوف واليأس والحنين الزائف إلى “زمن الاستقرار”.
وهنا تتجسد ما وصفته حنة أرندت بأزمة السياسة الحديثة: حين ينقلب الفضاء العمومي من ساحة للنقاش الحر إلى فضاء للتلقين والتكرار.
قوة السرديات المعادية للديمقراطية لا تقوم على صلابة حججها أو تماسك منطقها، وإنما على قدرتها على إعادة تدوير الخوف الجماعي واليأس الشعبي في قوالب رمزية مألوفة.
فهي تستدعي المخزون الوطني والديني لتغطية فراغها السياسي، وتحول شعاراتها إلى بديهيات يومية يسهل ترديدها.
عبارات مثل: “الديمقراطية فوضى”، “الوطن قبل الحرية”، “الديمقراطية لا تطعم خبزا”، “التعددية تفتت الوحدة الوطنية”، “كل السياسيين فاسدون”، “المؤامرة الخارجية وراء أزمتنا”…، تتكرر في خطابات القادة وبرامج الإعلام الموجه وتدوينات بعض المؤثرين، حتى تغدو أساطير مؤسسة ترسم حدود الممكن السياسي وتغلق أبواب النقد والمساءلة.
ويتم كل ذلك عبر لغة مشحونة بالرموز والحنين المزيف للماضي، مستندة إلى مظلومية جماهيرية تراكمت بفعل عقود من التهميش الاقتصادي، والتفاوت الجهوي والطبقي.
تتحول الكلمات هنا من أدوات للتعبير إلى أسلحة للهيمنة، تسيطر على المجال العام. ويتم اختزال السياسة في شعارات جاهزة.
فينتفي الحوار العمومي ويستبدل بمسرحيات إعلامية تلبس الجمهور حلولا فردية وهمية بدل إصلاحات حقيقية.
وهكذا تتم إعادة تشكيل الوعي الجمعي ليقبل الاستبداد كأمر مسلم به بدل أن يتم التعامل معه كخيار يمكن الطعن فيه ومقاومته.
هشاشة الخطاب الديمقراطي
لا يمكن فهم هيمنة السرديات السلطوية دون التوقف عند هشاشة الخطاب الديمقراطي ذاته.
ففي تونس، كما في بلدان عربية أخرى، انشغلت القوى الديمقراطية بصراعات أيديولوجية وبنقاشات تقنية حول الدستور والنظام السياسي والمشروع المجتمعي والهيئات والانتخابات، أو بخطابات مثالية عن الحرية والحقوق، دون ربطها بالخبز والعمل والكرامة.
هكذا ظلت الديمقراطية تبدو مشروعا نخبويا، محصورا في الصالونات السياسية والأروقة الحزبية، بعيدا عن هموم العاطلين والمهمشين وسكان الأطراف.
ظل الخطاب الاقتصادي والاجتماعي فضفاضا، عاجزا عن تقديم رؤية تنموية جريئة تربط الحرية بالعدالة والإصلاح الفعلي.
ومع تآكل فكرة التوافق بتحولها إلى محاصصة حزبية، تراجعت الثقة الجماعية بالمسار الديمقراطي برمته.
هذا الفراغ الفكري والعملي استغلته الشعبوية لتقدم نفسها كصوت “الشعب الحقيقي”، بلغة بسيطة مشحونة بالعاطفة، وبوعود غامضة بالانتقام من النخب.
ورغم عدم قابليتها للتحقق، نجحت في اختطاف لغة المعاناة اليومية، حتى صارت الديمقراطية في وعي كثيرين جزءا من الأزمة نفسها بدل أن تكون أفقا حقيقيا للخلاص.
نحو سردية ديمقراطية بديلة: ربط الخبز بالكرامة
إن الرد الفعال على هيمنة السرديات السلطوية لا يكون بالاستياء أو التنديد الأخلاقي فحسب. المطلوب إعادة بناء خطاب ديمقراطي بديل قادر على النفاذ إلى وجدان الناس.
الخطاب المنشود يجب أن يكون مقنعا ومعاشا، يقدم الديمقراطية كأفق للتنمية والعدالة الاجتماعية وتجربة حياتية ترتبط بالخبز والعمل والكرامة اليومية، بعيدا عن الشعارات النخبوية.
التجارب العالمية المضيئة، مثل إسبانيا والبرتغال بعد عقود الدكتاتورية، وكوريا الجنوبية بعد الحكم العسكري، تثبت أن التحول السياسي والحرية والشفافية والمساءلة تمثل مدخلا لتحقيق نمو اقتصادي واجتماعي مستدام، وأن الديمقراطية تشكل المانع الأقوى للفساد، وأهم مصدر للشرعية التنموية.
هذه النماذج تؤكد أطروحة الاقتصادي الهندي أمارتيا سِن، الحائز جائزة نوبل للاقتصاد عام 1998، بأن الديمقراطية شرط لإطلاق التنمية، إذ تتحقق القدرة الحقيقية للأفراد على الفعل والاختيار في بيئة حرة، وهو ما يربط مباشرة بين الحرية والنمو الاقتصادي والاجتماعي.
المطلوب في السياق العربي هو تحويل الديمقراطية من خطاب نخبوي ضبابي إلى معجم يومي ملموس، يربط بشكل لا يقبل الانفصال بين الخبز والحرية، وبين الكرامة والعدالة الاجتماعية.
يجب أن تحل هذه السردية محل الثنائية السلطوية؛ “الأمن مقابل الفوضى”، لتقترح بدلا منها: “المشاركة والعدل مقابل الفساد والتدهور”.
سردية تضع المواطن في قلب المشروع كفاعل أساسي، وتقدم السياسة لا كإدارة للممكن العقيم، بل كفعل تغييري قادر على فتح أبواب المستقبل.
الخطاب كسلاح إستراتيجي: معركة العقول والقلوب
على القوى الديمقراطية والمدنية في تونس والعالم العربي أن تدرك أن المعركة اليوم تجاوزت صراع الوصول إلى السلطة والحكم، لتصبح صراعا على الرواية الكبرى التي تحكم العقول وتأسر القلوب.
الديمقراطية لا تحافظ على شرعيتها فقط بالقوانين أو الانتخابات، بل أساسا من خلال القدرة على صناعة معنى يحس به الناس ويعيشونه يوميا.
المطلوب هو هندسة خطاب جديد، لا يقتصر على المضمون، بل يشمل اللغة والتوصيل، خطاب يربط بين المطالب اليومية والحقوق الأساسية، يواكب مخاوف الشباب والمهمشين، ويعيد بث الأمل المشروع.
استخدام الرموز الوطنية والدينية والاجتماعية بشكل خلاق يمكن أن يحول السياسة من إدارة تقنية إلى فضاء للمشاركة الجماعية، حيث تبنى الحقيقة عبر النقاش العمومي، كما تذكرنا حنة أرندت.
هذه المعركة السردية حاسمة: من يربح معركة الرواية، يربح معركة الشرعية، ومن يسيطر على المعنى يحدد أفق المستقبل.
من دونها، ستظل الديمقراطية مشروعا هشا، معلقا في الهواء، وعرضة للانهيار مع كل أزمة اقتصادية أو أمنية، عاجزة عن أن تكون أداة حقيقية للتغيير وصيانة الكرامة الإنسانية.
من الخطاب إلى العمل
التجربة التونسية تكشف بوضوح أن الانتقال الديمقراطي ينهار حين تتم إعادة تعريف الحرية نفسها كتهديد، وحين يترك المجال الرمزي فارغا لتملأه سرديات الخوف واليأس.
فمن لا يمتلك روايته، تبتلعه رواية خصمه. ومن يتهاون في معركة الوعي، يخسر معركة السياسة. فالحكاية هي أول المعركة، ومن يمتلكها يمتلك المستقبل.
إن معركة الديمقراطية في زمن الاستبداد هي أولا وقبل كل شيء صراع على الرواية الكبرى.
لذلك، من الواجب عدم الاكتفاء برفع شعارات الحرية والكرامة كعناوين مجردة؛ بل يجب أن نترجمها إلى سردية حية وملموسة تقنع الجماهير أن الاستبداد والفساد هما سبب معاناتهم الحقيقي، وأن الديمقراطية والمشاركة هما الطريق الوحيد لتجاوزها.
ولكي تتحول هذه السردية إلى قوة عملية قادرة على صياغة المستقبل، هناك خطوات إستراتيجية عاجلة تتطلبها المرحلة: تبدأ ببناء حملات خطابية تربط بين المطالب الاقتصادية المباشرة (كالتشغيل، والعدالة الجبائية، ومكافحة الفساد) وبين جوهر الديمقراطية، مقدمة إياها كشرط مصيري للتنمية والعدالة.
ويجب أن يتبع ذلك خوض معركة الفضاء الرقمي عبر إطلاق مبادرات شبابية مدنية تنتج محتوى بصريا ورقميا بلغة قريبة من الناس، تواجه سرديات الاستبداد في معقله ذاته.
من ينجح في إقناع الناس بأن الديمقراطية ليست مصدر معاناتهم، بل طريقهم لتجاوزها، يمتلك المفاتيح الحقيقية للانبعاث السياسي العربي.
هنا فقط، يتحول الخطاب إلى سلاح سياسي وإستراتيجي، وتصبح السردية الديمقراطية البديلة بداية حاسمة لمعركة الانبعاث العربي الحقيقي.