
في بزبينا، تنام الذاكرة على وسادةٍ من خرير السواقي، وتستيقظ الحواس على أنين الشجر ورائحة التراب المبلّل بندى الفجر.
هناك، في تلك القرية التي تشبه قصيدةً لم يكتمل وزنها، اكتشف الطفل أولى دهشاته، وتعلّم أن للحصى ذاكرة، وللماء همساً، وللشمس في المساء صلاةً خفيّة.
كان يظن جدّه حسن شاعراً أو فيلسوفاً، لأن صمته كان حكمةً تمشي على قدمين، ولأن ابتسامته كانت تسع العالم.
لكن الحقيقة أنّ الجد لم يكن سوى فلاحٍ بسيط، أفقر أهل بزبينا وأغناهم نقاءً.
الجد حسن ، هادئٌ حتى الملل، حنونٌ حتى القداسة، طيبٌ لدرجة السذاجة، كأنه آية من الطهر تمشي في البساتين.
كان الطفل يرافقه على الدروب الترابية، بين ظلال التين وملح عرق الجبين ، يحصي وقع العصا على الأرض كأنها نبض الوجود.
ومن متاع الدنيا آنذاك زيارة أم أسعد الورد، تلك العجوز التي حملت من اسمها نصيباً من الورد، محبةً واهتماماً.
كان الطفل يسترق النظر إلى حفيداتها الجميلات، فيرتبك كما يرتبك الربيع حين يلمحه الغيم.
أما طريق بيت كوكب فبعيد، تسلكه الأرواح الخفيفة عبر حدود الساقية وحجارة الصخر، لكن الجد كان يجد راحته هناك، عند ابنة شقيقه التي لا تبخل عليه بعنايةٍ ولا بحنوٍّ خالص.
وفي المساء، يبدأ مشوار الساحة، حيث ملجأ الأطفال وبهجة الضيعة.
الساحة كانت قلب بزبينا النابض، يجتمع فيها الصغار بأحلامهم الكبيرة، والضحكات تمتدّ كخيوط الضوء فوق الغبار الذهبي.
وهناك، عند دكانة نجيب الحداد، كانت تبدأ الحكايات:
فستقٌ محمّص، حبالُ حلوى، وسجائر لا تنطفئ، وضحكة من القلب لا تشبه إلا الصدق.
كبر الطفل وصار اليوم رجلاً خمسينياً، يحمل بزبينا في صدره كما يحمل المؤمن سبّحته.
لكن البلدة تبدّلت، وسادها رعاعٌ وسفهاء، أنصاف رجالٍ لا خيال لهم ولا خجل، يتكلمون عن القيم وهم أول من يدهسها.
حوّلوا البلدة إلى مسرحٍ للمظاهر، ودفنوا روحها تحت ركام الادّعاء.
الخمسيني ادرك بعد تجارب مريرة أنّ السكوت صار خيانة.
ما يستلزم فضح الرعاع ، لأن بزبينا التي ربّت ابناءها على النقاء، ترفض أن يحكمها السخفاء.
يقول المتنبي:
“وإذا أتتك مذمّتي من ناقصٍ
فهي الشهادة لي بأني كاملُ.”
هكذا يقولها ابناء بزبينا بصوتٍ عالٍ:
كفى صمتاً — فقد آن أوان الفضح، ولتسقط أقنعة الرعاع الذين شوّهوا وجه البلدة الجميلة.