مقالات وآراء

د.محمد عماد صابر يكتب: غزة تمشي على الرماد.. والعالم يشاهد!

لم أعد أتحمل سماع أخبار غزة، فكيف يتحمّل أهلها ما لا يتحمّله بشر؟


يسيرون عشرات الساعات على الأقدام، حفاةً جياعًا، بلا طعامٍ ولا شرابٍ ولا مأوى، يحملون أطفالهم على أكتافهم فوق الركام، والطائرات تلاحقهم بالقصف حتى في طريق النزوح.
الطرق غير ممهدة، والاتجاه مجهول، والسماء نذير موتٍ لا يفارقهم.
ومع ذلك، يواصلون السير، لأنهم اختاروا الكرامة على الذل، والإيمان على الخضوع.
لكن الأدهى أن العالم اعتاد على هذا المشهد، وألف صور الجثث والأطفال الممزّقين، حتى صار الموت في غزة خبرًا يوميًا لا يهزّ ضميرًا ولا يوقظ إنسانًا.
إنها حقا مأساة القرن.. التهجير كخطة ممنهجة. إن ما يجري في غزة ليس حربًا تقليدية، بل إبادة جماعية متكاملة الأركان؛ قصفٌ ممنهجٌ للأحياء، وتجويعٌ جماعي، وقطعٌ للكهرباء والماء والدواء، يتبعه تهجيرٌ قسريٌّ إلى المجهول.
إنها سياسة “القتل بالزحف” التي تهدف إلى كسر إرادة شعبٍ صمد قرنًا أمام الاحتلال، ودفنه في صمتٍ دوليٍ رهيب.


قال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]. وهذا هو جوهر المعركة؛ لا يُراد من أهل غزة سوى أن يتخلّوا عن إيمانهم وكرامتهم، وأن يقبلوا حياة الذلّ تحت حراب الاحتلال.

حقا مات الضمير العالمي. العالم الذي يرفع شعارات “الإنسانية وحقوق الإنسان” يشاهد آلاف الجثث ولا يتحرّك. الأمم المتحدة عاجزة، ومجلس الأمن مكبّل، والمنظمات الحقوقية تُصدر بيانات باردة، كأنها تتحدث عن زلزالٍ طبيعي لا عن جريمة إبادة. بل إن بعض الأنظمة العربية تُسهم في الحصار أو تصمت عنه، خوفًا من الغضب الأمريكي أو فقدان رضا الغرب.

أما الشعوب الإسلامية، فقد أصابها الإنهاك العاطفي؛ اعتادت المشهد حتى خمدت غيرتها، واكتفى كثيرون بالدعاء من بعيد. لكن الله لا يقبل من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تكتفي بالدعاء دون عمل؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان» (رواه مسلم).


وصمت الأمة اليوم عن قتل الأبرياء وتهجيرهم هو أضعف الإيمان في زمنٍ يحتاج إلى أعلاه.
ما يجري في غزة فتنةٌ عظيمة للأمة كلها، وليس لأهلها وحدهم : قال تعالي: { وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155]. لكن الصبر هنا لا يعني الاستسلام، بل الثبات والمقاومة، كما فعل الأنبياء والمؤمنون من قبل.


فقه الابتلاء يعلمنا أن النصر لا يُمنح للأقوياء عدّةً، بل للثابتين عقيدةً، وأن الأمة لا تنتصر إلا حين تنصر الحق وتُخلص النية لله، قال تعالي: { إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

القراءة السياسية تقول أن المأساة تتجه- سياسيًا- إلى فرض وقائع جديدة على الأرض؛ تهجيرٌ دائمٌ نحو الجنوب والحدود. إعادة هندسة القطاع تحت مسمّى “الإعمار والإدارة المشتركة”. استبعاد المقاومة، وتجريدها من السلاح، لتُدار غزة تحت وصاية دولية.
لكن هذا المخطط يصطدم بشعبٍ علّم العالم معنى الصمود، فالمقاومة اليوم لا تدافع فقط عن غزة، بل عن الوعي العربي والإسلامي الذي يريدون دفنه مع ركام البيوت.


ولذلك فالمعركة الحقيقية لم تعد عسكرية فقط، بل وعيًّا وجوديًّا: فهل تبقى الأمة متفرجة، أم تدرك أن سقوط غزة يعني سقوطها المعنوي والسياسي والأخلاقي معًا؟

إن الواجب الشرعي والسياسي للأمة يفرض نفسه. إن نصرة غزة ليست تفضّلًا، بل فريضة شرعية وسياسية.
قال صلى الله عليه وسلم: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا» (رواه البخاري). وعليه فإن الواجب على الأمة اليوم يشمل:

1- التحرك السياسي الرسمي: بوقف التطبيع، وطرد السفراء، ورفع قضايا قانونية ضد قادة الاحتلال كمجرمي حرب.


2- التحرك الشعبي والإعلامي: بكشف الأكاذيب الصهيونية، واستنهاض الجماهير، وإطلاق حملات المقاطعة الاقتصادية الشاملة.


3- التحرك الإغاثي والإنساني: بتوسيع قوافل الدعم، وفتح المعابر، وتشكيل جبهة إسلامية مستقلة لكسر الحصار.


4- التحرك الفكري والتربوي: بإحياء وعي الأجيال الجديدة بقضية فلسطين كقضية إيمان وكرامة، لا مجرد صراع حدود.

إن غزة اليوم في ميزان الإيمان تقف وحدها، لكنها تمثل إيمان أمة بأكملها. أجسادهم تُقصف، لكن أرواحهم لا تُهزم، وبيوتهم تُهدم، لكن عزائمهم تُبنى من جديد.
يُقال إنهم يمشون على الرماد، لكنهم في الحقيقة يسيرون على طريق الأنبياء الذين ساروا على ذات الدرب من قبل. {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا} [آل عمران: 146].

ختاما: من الرماد تولد الأمة. ما يجري في غزة اليوم ليس نهاية الحكاية، بل بدايتها من جديد. فكل طفلٍ يسير على الركام يحمل في قلبه وعدًا جديدًا بأن الأرض ستعود لأهلها.
إنها معركة الوعي والكرامة والإيمان؛ فإذا سكتت الأمة اليوم، فلن تسكت النار غدًا عن بيوتها، غزة لا تموت، بل تُعيد تعريف الحياة، ومن رمادها سيُبعث جيلٌ يقول:”هنا صمدنا، وهنا بدأنا طريق التحرير.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى