مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب: ورقة ليبرالية (2).. أنا والدستور والعائلة والحاضنة الفكرية

أتذكّر تلك الصدفة التي نَسَجت بين جيلين دستورين في حياتي: والدي كان مقررًا للدستور عام 1971، وأنا — بعد مسيرة من النضال والبحث — انتُخبت وكيلاً للجمعية التأسيسية لصياغة دستور 2012 بواسطة برلمان الثورة. هذه الحُدَثَة ليست مجرد تلاقٍ عائلي، بل تلاقٍ بين زمنين دستوريين بينهما روحُ حريةٍ واحدة؛ بين من أراد أن يُسَطّر دستورًا، وبين من قاتل ليصوغ دستورًا. الدستور الحرية

في هذا المسار، لم أَرِث مواقفً جامدة من عائلتي بل تورّثت عهدًا بمهمة؛ العائلة – بمعناها الواسع – هي الحاضنة الفكرية، وهي التي ترسّخ الدستور كمنهج حياة. مدرسة الوفد لم تكن مجرد فضاءً عائليًا بل منظومة قيم، رمت أن تربط بين الحرية والدستور كندّين لا يفترقان.

لم تكن دراستي في القانون العام فحسب خزانًا نظريًا، بل تجربة عقلية تربّيت عليها، نحو أن أستطيع الجمع بين العقل الفقهي والنبض النضالي. هذان البُعدان — النظرية والتطبيق — تشابكا في وعيي، فكان الدستور في ذهني ليس مجرد نص بل مشروع حياة، وشهادة قومية يُحاسَب بها كلّ من يتولى السلطة.

في تاريخ مصر، منذ ثورة 1919، ارتبط لسان الشعب بشعارين لا يفترقان: “الاستقلال” و”الدستور”. لم تكن هذه علاقة سطحية؛ إنها قراءة شعبية استراتيجية ترى أن الاستقلال بلا دستور يظل ناقصًا، والدستور بلا استقلال يظل بلا جسد. كما قال سعد زغلول: «إذا لم يكن الدستور ضمانًا للحرية فهو خديعة»، تُذكّرنا أن الدستور هو العهد الذي يحدّد العلاقة بين الحُكم والمكفول.

من هذا المنظور، تعاملت دومًا مع التجربة المقارنة بين النظام الإنجليزي والتجربة الفرنسية في تطور الفكر الدستوري. التجربة الإنجليزية، التي تراكمت عبر الماجنا كارتا وBill of Rights، تُعلّمنا أن المسار الدستوري يمكن أن يكون تطورًا عضويًا. أما التجربة الفرنسية فقد حرّرت الفضاء الدستوري من القيد الملكي دفعة واحدة، وأفرزت مبادئ السيادة الشعبية وفصل السلطات بقوة الثورة.

لكن المهمّ ليس التماهي الآلي مع هذا أو ذاك، بل أن نستخلص من هاتين التجربتين روحًا دستورية تناسب خصوصيات بلادنا: دستور يحمي الحرية، يُؤمن مشاركة المواطن، ويمنح الدولة مرونة التغيّر دون التخلّي عن الحقوق الأساسية.

التجربة المصرية في الدساتير لم تكن خطًا مستقيمًا؛ بل سلسلة تجارب – دستور 1923 ثم 1930 ثم العودة 1935 – ثم تحولات بعد ثورة 1952 ب دستور 1956، ثم المحاولات الاتحادية عام 1958 وتعديل 1964، ثم دستور 1971، ثم مسيرة 2012 و2014. في كل محطة، يتبدّى أن الدستور صراع بين إرادة التحديث وإرادة التعطيل.

دستور 1923 جاء لتجسّد مطالب الثورة 1919، لكنه عانى من ضآلة القوة أمام تحكّم الملك والمحيط الاستعماري. تجربة هذا الدستور علمتنا أن الدستور المُعلن وحده لا يضمن الحقوق إن لم يكن في كنف مجتمع سياسي واعٍ يدافع عنه.

بعد ذلك، دستور 1956 كان محاولة لربط الدستور بالجذور الوطنية الجديدة. لكنه واجه التحدي: كيف يُوزِن بين مشروع الثورة وبين مكامن الحريات؟ التجربة أظهرت أن أي دستورٍ يولد بسيطرة مركزية مطلقة مهدد بأن يبتلع حريته من الداخل.

حين وُضِع دستور 1971، كان السياق بحثًا عن استقرار مؤسّسي. كان يعلم والدُي دوره في هذا المشروع، بكل ما فيه من أملٍ ومخاطر. هذا النص أتاح إطارًا قانونيًا مؤسّسيًا يُمطّر حياة سياسية أكثر وضوحًا بعد فترات متقلّبة. لكنه أيضًا علّمنا أن النص الجيد لا يكتفي بمقعده الفخري، بل يحتاج روحًا دستورية تفعّله.

وعندما اجتمعتُ في التأسيسية 2012، كان صوت الثورة قد طالب — بأعلى ما في الصدور — بدستور يحمل قيمة الحرية والمواطنة والعدالة. انتخابي وكيلاً لم يكن مجرد شرف، بل أمانة أمام ملايينٍ ربطوا بين الثورة والدستور كجسور إلى التحرّر.

في داخل التأسيسية، عشنا المداولات الليلية والمداولات الصارمة. كثير من مواد الدستور بدت كمعارك لغوية، ولكن خلف كل كلمة كانت مفاضلة بين طموح وقيد، بين ضمان ومرونة. التحدّي الحقيقي كان في أن تُترجَم الرؤية الليبرالية إلى نصّ عملي، لا تظل محفورة في هوامش التفويض.

في ذلك المضمار، استعنت بفكر النحاس الذي لم يملّ من الدفاع عن الديمقراطية والدستور كميدانٍ مستمر. وعندما تذكّرت مكرم عبيد — المحامي النابض، الفذ المتحدث بحقوق الأمة — شعرت أن مهمّتنا ليست صياغة نصّ يُقرّه الحُكم، بل صوغ دعوةٍ لأمة تُمارس دستورها بوعي.

في داخلي، الدستور لم يكن مشروعًا قانونيًّا فحسب بل مشروعًا إنسانيًا. أخطاؤه ممكنة، وتصحيحه واجب مستمر. هو عقد يربط الأفراد بالدولة، لا أداة تقييد تُفرَض. إن تغييره يجب أن يكون مدفوعًا بحياة الشعوب وليس بتقلبات القوة السياسية.

من نظرة ليبرالية عميقة، أقرّ بأن الحرية هي الأصل، وأن الدولة موجودة لتأمين حرّية الفرد وحماية حقوقه، لا لاستلابها باسم النظام أو القرار. والدستور، في هذا السياق، هو صيغة توازن مستمرة بين الحرية والنظام، بين التعدّدية والانضباط.

أستحضر هنا أن التجربة الإنجليزية لم تأتِ بدستور مكتوب شاملٍ دفعة واحدة، بل تراكمت التقاليد. هذا يعلمنا أن الدستور يمكن أن يُبنى بأشكال متعددة، وأن استدامته لا تأتي من جمود نصّ بل من ديمومة روح دستورية في المجتمع.

وفي المقابل، التجربة الفرنسية علمتنا أن التغيير العميق قد يولّد مبادئ لا يُستعاد إليها بسهولة، وهذا يتطلب درجة من الحذر حتى لا نفقد البناء الديمقراطي في خضم الثورة.

أؤكّد أن دستور مصر يجب أن يكون نصًّا متقدّمًا من حيث الحقوق والحريات، ولكن لا يكفي أن يتقدّم نصّه إذا لم يتقدّم مجتمعنا معه في الوعي والمسؤولية. من يعيش في مجتمع يحترم القانون أكثر من استخدامه، يُصبح الدستور نهارًا يضيء الطريق.

خلال صياغة دستور 2012، كُنّا ندافع عن استقلال القضاء، وحرية التعبير، وحقّ المشاركة السياسية، وضمان الحماية من التعسّف، ونظام رقابة فعّال على السلطة التنفيذية. هذه ليست كلماتٍ فخمة، بل حدود الأمان الذي يطمئن المواطن أن حرّيته محمية لا مُكتَسَرة.

أتذكر ساعات التعب والمنازلة التي لا تُرى: من المساومات التي طلبت التنازِل لأجل إقرار مادة، إلى المفاوضات التي دارت خلف الكواليس. لكنّي كنت دائمًا أُصرّ على أن لا تُضحى الكرامة في سبيل السرعة، ولا تُذلّ الحقوق لأجل التوافق السهل.

في ذاك الزمان، كنت أشعر أنني لا أكتب دستورًا فحسب، بل أضع حجر زاوية لمستقبل وطن. بين السلامة القانونية والتطلّع الليبرالي عشت تلك اللحظة: أن النصّ القوي يجب أن ينبع من روح وطنية لا من صياغة مكتبية باردة.

واليوم، وأنا أكتب هذه الورقة، أرى أن معركة الدستور لم تنتهِ. ربما تُغيَّر المواد ويُعدَّلون النصوص، لكن روح الدستور تظل في وعي الأمة. مهمّتنا أن نستمر في حمايته، وأن نكون حراسًا لكتابه الحيّ، لا نتظاهر بالتشبّث به ككتابٍ مقدّس بلا حياة.

أختم بنداءٍ ليبرالي إنساني: دعوا الدستور لا يُوظَّف في صراع حزبي ضيق، ولا يُستَغل كأداة طمسٍ للحقوق. اجعلوه مرآةً لعزتكم وضميركم، واحتفظوا به سندًا لكم في مواجهة المنزلقات السياسية. إنه ليس إنجازًا يُكتفى به، بل عهدٌ بين أجيالٍ متعاقبة.

بهذه الورقة أوقِف قلمي، كأنني أقدّم توقيعًا على عهدٍ في قلبي: أن أظلّ، بكل ما أملك من جهد وفكر، مُنتظرًا اليوم الذي يُحتفل فيه دستور مصر ليس بكونه نصًّا معتمدًا، بل كقِيَمٍ حية تُمارَس في كل بيت، وفي كل قرار، وعلى كل لسان.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى