مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: أوراق من سجني 2… الكتابة بين القضبان

ما كنتُ أظنّ يومًا أنّ القلم يمكن أن يُصبح تهمة، ولا أن الورقة قد تُعامل كخطرٍ أمنيّ. لكن في السجن، كل ما يربطك بالحياة يصبح موضع ريبة، وكل ما يمنحك الأمل يُدرَج في قائمة الممنوعات.

في الأيام الأولى كنت أكتب كمن يتنفّس، أهرب من جدرانٍ تضيق بي إلى كلماتٍ تحتويني. لم تكن الكتابة ترفًا ولا تسلية، بل كانت شكلاً من أشكال البقاء، وشهادة على أن الروح لا تُكسر مهما ضاق الجسد.

بعد ثلاثة أشهر من اعتقالي، زارني اللواء محمود وجدي، وكان وقتها رئيسًا لمصلحة السجون، وصديقًا قديماً منذ أن كان يتولى رئاسة مباحث العاصمة، حين كنت نائبًا عن وسط القاهرة.

جمعتنا سنوات من التفاهم والمواقف الإنسانية في باب الشعرية والموسكي وغيرها من أقسام الشرطة التي كانت تموج بالمشكلات.

تصوّرتُ أنّ زيارته تلك عادية، حتى لاحظت أنّ إلى جواره ضابط أمن دولة يُدعى محمد سامي. بعد دقائق من المجاملة، تبدّل وجه اللواء وجدي وقال لي بوضوح: “أنا جاي برسالة من الوزير حبيب العادلي… الرئيس غاضب لأنك تكتب من السجن، وأسرته كذلك.

صدرت التعليمات بمنع خروج أي ورقة أو مقال لك من هنا.”

أدركت حينها أن المعركة الحقيقية قد بدأت، وأن الاعتقال الذي ظننته مؤقتًا أصبح اعتقالًا مكتمل الأركان.

قال لي: “توقّف عن الكتابة لتخرج وتعود لحزبك وبرلمانك.”

فقلت له: “سأخرج من هذا السجن… ولن يبقى مبارك على مقعده.”

كانت تلك اللحظة فاصلة، بين منطق السلطة ومنطق الضمير، بين الخوف والكرامة، بين صمتٍ يُبقيك حيًّا وصوتٍ قد يقتلك لكنه يُبقيك إنسانًا.

بعد أيام، صدرت الأوامر بترحيل كل السياسيين من سجن المزرعة، وفُصلت عنهم في ملحقٍ فرعي ضيقٍ ومغلق، إحكامًا للحصار عليّ ومنعًا لتسريب أي ورقة.

أُغلقت الأبواب حرفيًا على كلماتي، لكني كنت أعلم أن الجدران لا تملك أن تغلق الطريق إلى الخيال.

مُنعت مقالاتي تمامًا حتى رفعت دعوى أمام مجلس الدولة، فحكم المستشار أحمد الشاذلي — وهو قاضٍ شريف يذكره التاريخ — بحقي في الكتابة من داخل السجن.

لم يكن الحكم فقط انتصارًا لي، بل لكل من آمن أن الحرية لا تُجزّأ.

نصّ الحكم على أن تُقدّم لي إدارة السجن شهريًا عددًا محددًا من الأوراق والأقلام وأفرخ الكربون للنسخ، لكنهم كانوا يعدّونها يوميًا كأنهم يحرسون كنزًا.

فإذا اختفت ورقة واحدة، أُغلِق السجن بكامله حتى تُستعاد.

كنت أكتب وأضع الكربون فوق الورقة، وأستبدل الأوراق الفاصلة بأوراق “الزبدة” الرقيقة التي كانوا يغفلونها في العدّ.

هكذا، عبر تلك الأوراق الهشة، خرجت مقالاتي من بين القضبان، كما يخرج طائر من فجوةٍ في الحديد.

لسنواتٍ كانت معركة الكتابة هي التحدي الأكبر: بين رغبةٍ في البقاء وصوتٍ يصرخ أن يكتب.

لو لم أجد وسيلةً لكسر هذا الحصار، لمتُ من القهر، لا من السجن.

فالكتابة في الأسر ليست مهنة، بل مقاومة. ليست ترفًا، بل ضرورة، تشبه الهواء لمن ضاق به الهواء.

اليوم، وأنا أستعيد تلك السنوات، أدرك أن السجن لم يكن جدرانًا فقط، بل مختبرًا للروح.

ففي ظله تمايز الناس: من صمت خوفًا، ومن كتب شجاعةً.

وأنا اخترت الكتابة، لا لأنها تُنقذني من النسيان، بل لأنها تُعيد لي حقي في أن أكون نفسي.

الكتابة بين القضبان لم تكن ترفًا أدبيًا، بل كانت مقاومةً هادئة ضد التغييب، وإعلانًا مستمرًا أن الكلمة أقوى من القيد.

وربما كانت تلك الأوراق القليلة التي خرجت خلسةً من السجن، أكثر صدقًا وتأثيرًا من مئات المقالات التي تُكتب في الهواء الطلق.

نعم، خرجت بعد ذلك من السجن، لكن الكتابة التي وُلدت هناك لم تخرج مني أبدًا. لأنني أدركت أن القلم — مهما صودر — سيجد دائمًا طريقه إلى الضوء، كما تجد شجرةٌ صغيرة طريقها بين شقوق الإسمنت نحو الشمس.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى