
كانت حرب أكتوبر 1973 وحرب “طوفان الأقصى” 2023 لحظتين حاسمتين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي؛ لكنهما تباينتا في جوهرهما العقائدي وآثاراهما الاقتصادية وجوانبا أخرى؛
فبينما كانت حرب 1973 تقودها دولتان ونظامان علمانيان (مصر وسوريا) بهدف تحريك الجمود السياسي واستعادة الأرض (سيناء والجولان) والسيادة، فقد أسست المقاومة الفلسطينية الإسلامية في غزة عملية طوفان الأقصى في أكتوبر 2023 على أساس عقدي جهادي ثم وطني فلسطيني.
إن المقارنة هنا تكشف أن العقيدة القتالية هي القاسم المشترك في تحقيق المعجزات العسكرية، وهي نفسها قد تكون السبب في الانتكاسات والخذلان (الجبهة السورية).
العقيدة القتالية العسكرية:
“سر انتصار مصر في أكتوبر 1973 و هزيمة سوريا”:
كان هدف السادات في 1973 قومياً تكتيكيا بحتاً: ألا وهو النجاح في عبور قواتنا لقناة السويس وتجاوز خط بارليف والسيطرة على الضفة الشرقية للقناة والتقدم لعدة كيلومترات قليلة في عمق سيناء، وذلك لإجبار العدو على الجلوس للتفاوض لاستعادة سيناء؛ لكنه كان من الذكاء بحيث استطاع استغلال مفتاح النصر الذي يتجاهله العلمانيون ألا وهو تحفيز ضباط وجنود القوات المسلحة للقتال جهادا في سبيل الله وطلبا للشهادة، فقد كان يعلم هو وجميع القيادات أن الخسائر البشرية قد تكون عالية جدا لتحقيق العبور، فكان قراره الدفع بـعلماء الأزهر الشريف ومشاهير دعاة وزارة الأوقاف ومساجدها إلى الجبهة بدلا عن الفنانين والراقصات والمغنيين لرفع الروح المعنوية للجنود والضباط. بعد سلسلة من هزائم متتالية سابقة منذ انقلاب 1952 حتى نكسة 1967.
فقد شهدت الفترة التي سبقت الحرب جهداً مكثفاً على مدار نحو 90 يوماً قبيل الحرب لـتغيير عقيدة أفراد الجيش على الجبهة من خلال زيارات مكثفة من أصحاب الفضيلة علماء الأزهر الشريف ودعاة وزارة الأوقاف، حيث كلفوا بإحياء روح الجهاد وبذل النفس في سبيل الله.
إن هذا التحول الجذري جعل معظم الجنود والضباط يقاتلون في شهر رمضان المعظم وهم صائمين رغم الرخصة والفتوى، وهم يصدحون بـ “الله أكبر” طالبين الشهادة وهم صائمون، فكان النصر حليفهم.
هذا يرسخ حقيقة أن الجيش المنتصر هو الذي يحمل عقيدة جهادية وخاصة في مواجهة عدو يقاتل تحت راية دينية كجيش الاحتلال الإسرائيلي.
على النقيض تماماً، وعلى الجبهة السورية، فقد أقدم حافظ الأسد على خيانة كبرى أثناء الحرب بعد أن تمكن الجيش السوري من تحرير هضبة الجولان مستفيدين من ضغط الجيش المصري على الجبهة المصرية؛ حيث أمر بانسحاب مفاجئ، ليدخلها الصهاينة مجدداً دون قتال.
هذه الخيانة لم تكن مجرد خطأ عسكري، بل كانت تجريداً للجيش من هدفه القومي الأصيل واشارة مبكرة لعمالة النظام السوري وكثير من الأنظمة العربية؛ إلا أن الشعوب العربية الغافلة كانت تحت تأثير “بنج” القومية العربية الزائفة فاستمرت الأمة تائهة حتى 2011 عندما استفاق بعض شبابها ورغبوا في التغيير والحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية في تونس ومصر وسوريا وليبيا واليمن.
الأثر الاقتصادي لحرب أكتوبر 1973:
“خطة منع النفط لتحقيق طفرة أسعاره، ثم انتعاش بنوك أمريكا والغرب !”:
كان الأثر الاقتصادي لحرب 1973 واسع النطاق، مدفوعاً باستخدام سلاح النفط العربي.
- الدول المتضررة (الصدمة النفطية): تعرضت الاقتصادات الغربية في البداية (الولايات المتحدة وأوروبا واليابان) لـصدمة هائلة بسبب قرار الملك فيصل بقطع إمدادات النفط وخفض إنتاجه، مما تسبب في ارتفاع سعره بشكل جنوني؛ حيث تضاعف سعر البرميل نحو أربع مرات، مرتفعاً من حوالي 2.60 دولار إلى حوالي 12 دولاراً بحلول عام 1974. تسبب ذلك في اشعال موجة تضخم عالمية وركوداً اقتصادياً عميقاً.
- الدول المستفيدة (إعادة تدوير البترودولار): بالطبع ونظرياً فقد استفادت الدول العربية المنتجة للنفط (السعودية ودول الخليج) طفرة مالية غير مسبوقة، لكن هذه الثروة النفطية الهائلة لم يذهب معظمها لتمويل التنمية في الأقطار العربية أو لدعم التكامل بينها أو لمساعدة مصر في تلافي آثار الحرب المستمرة منذ نكسة 1967 حتى 1973 مرورا بحرب الاستنزاف لسنوات؛ بل تم توجيه الفتات فقط لخدمة الدول والشعوب العربية بينما تم توجيه معظم أرباح الطفرة النفطية وإلى يومنا هذا مباشرة للبنوك الغربية والأمريكية (إعادة تدوير البترودولار)، لتكون بمثابة شريان إنعاش للاقتصاد الأمريكي “صاحب خطة الحرب واستخدام سلاح البترول”! هذا التدفق الهائل للسيولة المفترض أنها عربية! ساهم بشكل فعال في تثبيت مكانة الولايات المتحدة كقوة اقتصادية ومالية عالمية وحيدة خلال العقود التالية حتى استطاعت تدمير عدوها اللدود الاتحاد السوفيتي بأموال العرب وبدماء المسلمين على الساحة الأفغانية !! حتى أصبحت الولايات المتحدة القطب الأوحد للعالم لعقود.
الخطة الصهيونية لتغيير العقيدة العسكرية المصرية “والعربية بالتبعية”:
لقد نجحت القيادات التابعة للكيان في مصر والوطن العربي لتغيير العدو الاستراتيجي لجيش مصر والجيوش العربية أيضا من كونه منذ الخمسينيات: “الكيان الصهيوني ودولة الاحتلال” لأن أصبح عدوا جديدا تمت تسميته “الإرهاب، أو الإرهاب المحتمل” ويقصد به بالطبع “الإسلام”!
لقد تكبدت مصر خسائراً اقتصادية ضخمة بسبب تداعيات طوفان الأقصى 2023 ثم حرب التطهير العرقي على غزة التي شاركت فيها الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا وبعض الدول العربية للأسف الشديد!
كان الطوفان اختباراً فاضحا لكثير من الأنظمة العربية، التي اعتبرت دولة الاحتلال دولة حليفة واعتبرت المسلمين في غزة أعداءً !!.
إن تغيير العقيدة القتالية للجيش المصري ليس أبدا قراراً مصرياً.
- آثار الطوفان الاقتصادية على الكيان الصهيوني (2023-2025): تسبب طوفان الأقصى ثم الحرب على غزة في أضرار اقتصادية هائلة لدولة الاحتلال. حيث تشير التقديرات إلى أن التكلفة المباشرة للحرب قد تجاوزت 67 مليار دولار حتى نهاية عام 2024 (وفق تقديرات صحف إسرائيلية)، مع انخفاض حاد في الناتج المحلي الإجمالي (الذي انكمش بنسبة 20.7% على أساس سنوي في الربع الرابع من 2023). هذا الضرر شمل توقف قطاعات حيوية كالتكنولوجيا والسياحة والزراعة، وتتوقع التقديرات أن التكلفة الإجمالية للحرب والتصعيد قد تتجاوز 132 مليار دولار وتصل الخسائر غير المباشرة إلى 400 مليار دولار على مدى العقد القادم.
- الآثار الاقتصادية لحرب غزة على مصر: كانت مصر الخاسر الأكبر بسبب تراجع إيرادات قناة السويس، التي انخفضت بنسبة تراوحت بين 50% إلى 60% (ووفق صندوق النقد الدولي بلغت 70%) في الأشهر التالية للعمليات، نتيجة تحويل السفن مسارها حول أفريقيا. ونتيجة لذلك، فقدت مصر ما يزيد عن 6 مليارات دولار من إيرادات القناة خلال الشهور الثمانية الأولى من التوترات، وتجاوزت الخسائر 7 مليارات دولار في عام 2024 بأكمله.
لولا التحول في العقيدة القتالية لتدخلت مصر سياسيا وعسكريا لإيقاف الحرب، وكسر الحصار وانقاذ اخواننا في غزة بدلا عن إعانة دولة الاحتلال عليهم! لقد كان من شأن مثل هذا التدخل حماية الأمن القومي المصري ويحقن دماء عشرات الآلاف وأن يحمي أكثر من مليوني غزاوي من أشقائنا في الدين والعروبة بل والنسب وأن ينهي التوترات وأن يعيد حركة الملاحة في القناة إلى طبيعتها، مما كان سيصب مباشرة في مصلحة الاقتصاد المصري والشعب المصري.
إن اتخاذ مصر لقرار المشاركة في حصار غزة، بدلاً من حمايتها، وتفضيل دور الممر اللوجستي لإسرائيل، هو دليل على أن تغيير العقيدة القتالية للجيش المصري (باعتبار “الإرهاب” (المسمي الجديد والخبيث للإسلام) العدو الرئيسي بدلاً من دولة الكيان الصهيوني) هو الذي قاد إلى هذا الخزي الذي أضر بالاقتصاد وبالشعب المصريين بدلاً من حمايتهما.
معجزات طوفان 2023:
لقد أكدت نتائج عمليات طوفان الأقصى على أن قوة فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة ترتكز على العقيدة القتالية الجهادية لها.
فالفصائل الإسلامية، لا تمتلك دبابات ولا طائرات، بل رجال مؤمنين بقضيتهم واثقين في عدالتها مستعدين بحب وشغف لبذل الأرواح والدماء في سبيل الله من أجلها.
لقد حقق هؤلاء الأبطال ملاحما ومعجزات عسكرية بكل المقاييس لأنهم يدخلون المعركة يطلبون إحدى الحسنيين.
في المقابل، كانت استراتيجية الكيان الصهيوني في 2023 هي تصفية القيادات، فاغتالوا القائد يحيى السنوار وعديد من قادة حماس، “تقبلهم الله عنده في الشهداء” وخططوا ونفذوا بعض محاولات اغتيال فشل بعضها وأحبطت أخرى ونجحوا في البعض في (قطر وتركيا وإيران).
لقد توقع الكيان الصهيوني أن التركيز على تصفية القيادات سينهي الأمر ويفكك المقاومة ففوجيء والجميع بالنجاح الباهر والثبات وحكمة الصفوف الثانية والثالثة لأن القوة الحقيقية للمقاومة تكمن في عقيدة وتربية وثبات كل أفرادها، ولهذا { سيهزم الجمع ويولون الدبر } وستتحرر القدس والأوطان بهؤلاء وأمثالهم.
التحول الدولي في الوعي بالقضية:
شكل الطوفان وعيا شعبيا عالميا وفضح خيانة الأنظمة العربية، وأدى إلى أكبر تحول في الوعي الدولي لصالح القضية الفلسطينية.
فلم يعد أحد فوق الأرض يعلم بعدالة القضية الفلسطينية وإرهاب ونازية وإجرام دولة الاحتلال الإسرائيلي.
أما الاعترافات المشروطة لدول أوروبية كبرى (مثل بريطانيا، إسبانيا، أيرلندا، والنرويج) وغيرها بدولة فلسطين، فهو مخالف للقانون الدولي وغير قابل للتنفيذ الفعلي ولم يكن إلا أداة ضغط دولية للحفاظ على الكيان الصهيوني من الانهيار بيد نتنياهو واليمين المتطرفة في دولة الكيان ومنع توريط الغرب أكثر في ظل انشغاله بالحرب الأوكرانية المرشحة للتوسع والأزمات الاقتصادية العالمية.
إن هذا الوعي العالمي الهائل يمثل انتصاراً للمقاومة في غزة ولفلسطين وللإسلام، إذ نجح الطوفان في فضح التحالفات الصهيونية الجديدة في المنطقة وانهيار منظومتي جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي.
غزة من عسقلان وفيها الرباط:
وفي الختام، لا يسعنا إلا أن نشيد بجهاد أهلنا في غزة العزة، أهل الرباط المقدس الذين يسطرون أروع ملاحم الصبر والتضحية والثبات الذين أحيوا الأمة وايقظوا أحلامها في استعادة مقدساتها وأرضها ومجدها وعزها وكرامتها وحريتها ومواردها.
إن هؤلاء الأماجد والماجدات هم أهل عسقلان وما جاورها وأهل الرباط الذين مدحهم سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أكثر من أربعة عشر قرنا:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[ أَوَّلُ هَذَا الْأَمْرِ نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ، ثُمَّ يَكُونُ خِلَافَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَكُونُ إِمَارَةً وَرَحْمَةً، ثُمَّ يَتَكادَمُونَ عَلَيْهِ تَكادُمَ الْحُمُرِ فَعَلَيْكُمْ بِالْجِهَادِ، وَإِنَّ أَفْضَلَ جهادِكُمُ الرِّبَاطُ، وَإِنَّ أَفْضَلَ رباطِكُمْ عَسْقَلَانُ ].
نسأل الله تعالى أن يرحم الشهداء الذين قضوا نحبهم، وندعو للأحياء في غزة أن يطعمهم الله ويسقيهم ويكسيهم ويؤويهم، وأن يؤمنهم من كل خوف، وأن يحفظهم من كيد الكائدين وبطش الأعداء الظاهرين والخفيين من صهاينة العرب والعجم، الذين تكالبوا عليهم ليس لشيء إلا لأنهم قالوا ربنا الله، ونطلب منهم الصفح عن ضعفنا وخذلاننا لهم.