صحفيو الفاشر بين الجوع والتعذيب… حصار يخنق حرية الكلمة

أخبار الغد – الخرطوم / خاص
في قلب مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور، يعيش الصحفيون واحدة من أقسى المآسي الإنسانية والمهنية في العالم اليوم.
تقرير حديث صادر عن لجنة حماية الصحفيين (CPJ) بتاريخ الأول من أكتوبر 2025، كشف عن واقع مرعب يعيشه الصحفيون هناك: جوع، اغتصاب، حصار، وتعذيب، وسط غياب كامل لأي حماية دولية أو إنسانية.
المدينة التي تخضع منذ مايو 2024 لحصار خانق فرضته قوات الدعم السريع (RSF)، تحوّلت إلى سجن كبير لا يدخل إليه الغذاء ولا الدواء.
الصور الجوية التي حصلت عليها اللجنة من جامعة ييل الأميركية أظهرت أن المدينة مُحاطة بسواتر ترابية وأحزمة عسكرية تمنع حتى قوافل الإغاثة من الوصول.
المأساة لم تعد أرقامًا، بل قصصًا حيّة لصحفيين دفعوا حياتهم ثمنًا للحقيقة.
سبعة منهم تحدّثوا في التقرير من داخل الحصار أو بعد الهروب منه، بينهم صحفيات تعرّضن للاغتصاب الجماعي، وصحفيون ضُربوا وعُذّبوا فقط لأنهم كتبوا أو صوّروا ما يحدث.
إحدى الصحفيات روت أنها داهمتها عناصر من الدعم السريع في منزلها، وبعد اكتشاف مهنتها، تعرّضت للضرب والاغتصاب على يد ثلاثة مسلحين.
لم تجد علاجًا ولا مساعدة طبية، فالمستشفيات إما مدمّرة أو مغلقة. تقول في شهادتها:
“لم يكن ذلك العنف عشوائيًا، كان عقابًا لأنني صحفية.”
أخرى احتُجزت 45 يومًا في أبريل ومايو الماضيين، وتعرّضت للتعذيب والتهديد بالقتل لإجبارها على التوقف عن الكتابة.
أما الصحفي حميد هارون، فاعتُقل بعد أن نشر تقارير عن قصف المستشفى الرئيسي في الفاشر، وتعرّض للضرب المبرّح قبل أن يُفرج عنه بعد يوم من التعذيب.
الانتهاكات لا تتوقف عند العنف الجسدي؛ بل تمتد إلى حرب نفسية ممنهجة.
تُنشر صور الصحفيين وأسماؤهم على الإنترنت مصحوبة بتهديدات بالقتل، في محاولة لتكميم ما تبقّى من صوت.
تقول الصحفية لانا عوض حسن، التي أُصيبت بطلق ناري قبل أن تغادر المدينة:
“كل من الدعم السريع والجيش يستهدف الصحفيين، لكننا لا نتوقف. نكتب بأسماء مستعارة لأننا نريد فقط أن يعرف الناس الحقيقة.”
في ظل غياب الغذاء، تحوّل الجوع إلى سلاح حرب.
الأسواق فارغة، والناس—including الصحفيين—يأكلون أعلاف الحيوانات للبقاء أحياء.
أحد الصحفيين قال للجنة:
“لم أر ثمرة فاكهة منذ عام كامل.”
وعلى الرغم من الجوع، والانقطاع المتكرر للكهرباء والإنترنت، لا يزال بعض الصحفيين يصرّون على البقاء في المدينة لتوثيق المأساة.
يقول الصحفي عبد المعطي إبراهيم:
“اخترت البقاء لأنني صوت شعبي الذي لم يعد له صوت. الصحافة هنا ليست مهنة، بل واجب، حتى لو كلفتني حياتي.”
اللجنة وثّقت أيضًا مقتل الصحفي النور سليمان النور بضربة جوية في الثالث من أكتوبر، وطالبت بفتح تحقيق دولي شفاف لمحاسبة المسؤولين.
في ختام تقريرها، دعت لجنة حماية الصحفيين المجتمع الدولي إلى الضغط على أطراف النزاع لاحترام التزاماتهم الدولية بحماية الصحفيين، وفتح ممرات إنسانية عاجلة إلى المدينة، مؤكدة أن “ما يحدث في الفاشر جريمة حرب ضد الحقيقة ذاتها”.
الحرب في السودان التي اندلعت منذ أبريل 2023 بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع، خلفت أكثر من 12 مليون نازح ودفعت البلاد إلى حافة المجاعة، بينما باتت حرية الصحافة واحدة من أبرز ضحايا هذا الصراع.
تحليل “أخبار الغد”
التقرير ليس مجرد توثيقٍ لمعاناة مهنية، بل شهادة حيّة على تهاوي منظومة القيم الإنسانية في نزاعٍ تتداخل فيه الجريمة بالحرب.
ما يحدث في الفاشر هو استهداف مباشر للحقيقة، ومحاولة لخنق الكلمة الحرة بالجوع والرصاص.
يبقى السؤال: كم فاشرًا أخرى ستصمت قبل أن يسمع العالم النداء الأخير من السودان؟