شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : الليبرالية والسلطة بين الحلم والخذلان

لم تكن الليبرالية في مصر نزوة فكرية أو موضة ثقافية عابرة؛
كانت، وما زالت، محاولة شجاعة لتوحيد العقل بالضمير، والحرية بالمسؤولية. انطلقت من حلمٍ وطنيٍ أصيل، يربط بين الإصلاح السياسي والعدل الاجتماعي، بين الدولة المدنية الحديثة والإيمان العميق بقيمة الإنسان. غير أن هذا الحلم، كلما اقترب من التحقق، اعترضته لعنة السلطة، فأُغرِق في بحرٍ من الخذلان والترويض.

بين الحلم الأول الذي حملته طلائع التنوير من سعد زغلول إلى لطفي السيد وطه حسين،
وبين واقعٍ محبطٍ تُمارس فيه السياسة بوصفها إدارة للخوف لا للحرية، تبدو الليبرالية المصرية كطائرٍ فقد توازنه بين جناحيه: الحرية التي يخشاها الحاكم، والعقلانية التي يجهلها الشارع.

كلما اقتربت الليبرالية من الحكم، تفقد براءتها.
وكلما ابتعدت عن الناس، تفقد معناها. فالتحدي الحقيقي أمام الفكر الليبرالي لم يكن يومًا في صدامه مع السلطة وحدها، بل في قدرته على أن يبقى ضميرًا حيًا للمجتمع، لا تابعًا للسلطان ولا ناطقًا باسم الممولين.

مأساة الليبرالية العربية، والمصرية بخاصة،
أنها عاشت طويلًا تحت مظلة الخوف، حتى تحوّل بعض مناصريها إلى موظفين في مؤسسات الاستبداد، يبرّرون الكبت باسم الدولة، ويغلفون القهر بشعارات الأمن القومي. وهكذا تحولت الفكرة، التي وُلدت لتكون جسرًا إلى الحرية، إلى درعٍ يبرّر القيود.

ليست الليبرالية خصمًا للدين، بل امتدادًا لأخلاقياته العادلة،
وإيمانها بالحرية نابع من إيمانها بالكرامة التي منحها الله للإنسان. ولذلك فإنها لا ترفض الإيمان، بل ترفض استغلاله. ولا تناهض القيم، بل تدافع عن حق كل إنسان في أن يختار قيمه بوعيٍ وحرية.

الليبرالية ليست حزبًا ولا شعارًا، بل مشروع إصلاح متجدد.
مشروع يُعيد بناء الدولة على أساس التوازن بين السلطة والرقابة، وبين الحرية والنظام، وبين الاقتصاد والعقلانية الاجتماعية. مشروع يعيد المواطن إلى مركز المعادلة السياسية، بدل أن يظلّ مجرد تابعٍ أو متفرّج.

في زمن الخداع الكبير، حيث تُباع الأفكار في المزادات،
تحتاج مصر إلى الليبرالية أكثر من أي وقت مضى. تحتاجها كمنظورٍ واقعي للإصلاح، وكحلٍّ سياسيٍ أقرب إلى منطق العقل المصري وظروفه الموضوعية. فالإصلاح لا يولد من رحم الأيديولوجيا المغلقة، بل من فكرٍ مرنٍ يؤمن بالمشاركة، والمساءلة، والتوازن بين الحرية والعدالة.

الليبرالية هي الحل، لا لأنها معصومة، بل لأنها الأنسب لعقلٍ يكره الغلوّ ويبحث عن الوسطية،
ولواقعٍ أنهكه الصراع بين الاستبداد والفوضى. هي الطريق الذي يُصلح دون أن يهدم، ويُغيّر دون أن يحرق، ويعيد بناء الدولة على أساسٍ من الشفافية، والعدالة، واحترام الإنسان.

مستقبل مصر لن يُصنع بالشعارات، بل بالعقول التي تؤمن أن الحرية ليست ترفًا،
وأن الوطن لا يُدار بالخوف، وأن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الفرد قبل النظام، ومن الوعي قبل القرار. تلك هي روح الليبرالية التي نحلم بها: وعيٌ يحمي، لا وعيٌ يُخدّر.

قد تكون هذه الورقة خاتمة لسلسلة أوراق ليبرالية، لكنها ليست خاتمة الحلم.
فالأفكار لا تموت، بل تنتظر من يؤمن بها. وإن خذلتها السلطة أو باعها بعض أبنائها، ستظل الليبرالية المصرية النواة الأصدق لمشروع نهضةٍ ممكنة، قوامها الإنسان، وغايتها الكرامة، ووسيلتها الحرية المسؤولة.

وها أنا أختتم هذه الأوراق بما بدأتُ به يوم كتبتُ أولها في مطلع التسعينات:
الليبرالية هي الحل — لا بوصفها شعارًا سياسيًا، بل لأنها الطريق الأقرب إلى الإصلاح، والأقدر على مصالحة مصر مع نفسها، ومع عقلها، ومع مستقبلها الذي يستحق أن يكون حرًا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى