
استوقفني مقال واعي يدور حول الاجابة على سؤال طالما تردد في صدور المخلصين والصادقين حتى قبل أن تردده ألسنة الحاقدين والمغرضين: “هل قرر السنوار الانتحار حين فجر الطوفان”؟
للأسف كان المقال منقولا ولم أهتدي الى صاحبه الذي فضل استخدام مصطلح “الانتحار ” مع قسوته ولم يستعمل مصطلح التضحية أو الاستشهاد مع موضوعيته ، وسوف أسايره في عنوانه باعتباره سؤالا غربيا مطروحا على موائد عربية و أدين له بتحفيزي على الاجابة واستفادتي الكبرى مما استدل به في طرحه وعرضه وخلاصته.
لم يكن السابع من أكتوبر مجرّد معركة عسكرية، ولا مجرد هجوم مباغت على كيانٍ احتل الأرض والكرامة معًا، بل كان لحظة وعي تاريخية كبرى، تمثّل انفجارًا للروح الغزّية المحاصرة التي ضاقت بالحياة داخل القفص الحديدي منذ عام 2006م.
ولذلك تساءل البعض عما فعله السنوار ورجال المقاومة في غزة باطلاق الطوفان وهل كان قرارا أم انتحارا؟
لكن الحقيقة انه لم يكن انتحارا ولا فناءا ولكن تضحية من أجل العيش الحر والبقاء هي تلك اللحظة الفاصلة التي وصفها الفلاسفة من قبل بأنها “الانتحار الاستراتيجي” حين تختار الجماعة أن تواجه الموت لا لتفنى، بل لتستعيد البقاء المفقود.
يحيى السنوار، قائد الطوفان في قرارٍ كهذا، لم يكن سياسيًا يبحث عن نصرٍ سريع أو مكسبٍ تفاوضي، بل كان صدى لوعيٍ جمعي في قطاع كامل متراكم عبر 17 عامًا من الحصار والإذلال.
رجل أدرك أن استمرار الحياة على هذا النحو ليس بقاءًا، بل موتٌ بطيء تحت سقفٍ من الذلّ والديمومة .
لذلك، لم يكن ما فعله انتحارًا، بل تحررًا من الخوف وتحررًا من وهم “إدارة الأزمة” التي جعلت الاحتلال بمثابة قدرًا أبديًا لا يُمسّ ولايفكر عاقل في الاقتراب والمساس بأسواره.
في علم النفس الاجتماعي، يشرح إميل دوركايم أن بعض المجتمعات، عندما تُدفع إلى حافة الفناء المعنوي، تختار “انتحارًا جماعيًا واعيًا” حفاظًا على روحها ،
هذا بالضبط ما فعلته غزة. فالموت لم يقهر العدوّ، بل صار طريقًا لاستعادة الكرامة والحرية.
هي لحظة غزة حين اختارت أن تموت لتعيش، والسنوار في تلك اللحظة لم يكن فردًا، بل مرآة لمليوني إنسان قالوا بصوتٍ واحد: “الحياة بلا حرية موت، والموت في سبيل الحرية حياة.”
وكما قال المفكر فرانز فانون: “حين يقتل الشعب المستعمَر، لا يقتل عدوّه فقط، بل يسترد ذاته.”
غزة لم تكن تبحث عن الدم بقدر ما كانت تبحث عن المعنى، أن تُرى، أن يُسمع صوتها، أن تكسر صمت العالم الذي اعتاد أن يمرّ فوق جثثها دون أن يسمع ويرى صرخاتها ونزيف دماءها .
ففي تلك اللحظة، لم يكن 7 أكتوبر انتفاضة مسلّحة فحسب، بل كان صرخة وجودٍ كبرى ضدّ العدم، ضدّ فكرة أن غزة “ملف إنساني” لا قضية وطن.
لقد فهم السنوار، ورجاله كما فهم من سبقه من قادة حركات التحرر، أن العالم لا يتغيّر بالاستجداء ولا بالمذكرات، بل بالصدمة الأخلاقية التي تهز الضمير الإنساني.
أراد أن يُسقط القناع عن وجه إسرائيل “الديمقراطية”، وأن يُجبرها على أن تُظهر حقيقتها أمام الكاميرات: دولة استعمارٍ تمارس التطهير العرقي، وتقتل الصغار والكبار وتحرق الحجر والشجر والبشر لتبقى.
وها هو ما أراده قائد الطوفان يحدث فعلًا؛ فإسرائيل التي انتصرت عسكريًا في الميدان، بدأت تنهزم أخلاقيًا وتنهار انسانيا في الوعي العالمي.
طلاب الجامعات في الغرب يرفعون علم فلسطين، الكتّاب والمفكرون يعلنون سقوط “أسطورة اسرائيل الضحية”، والشعوب باتت ترى الحقيقة كما هي: غزة ليست منطقة حرب، بل مرآة ضمير العالم.
ومعلوم بالضرورة أن الهزيمة الأخلاقية دائمًا تسبق الهزيمة السياسية ،هذا ما حدث لأمريكا في فيتنام، وللفرنسيين في الجزائر، وللنظام العنصري في جنوب أفريقيا. كلهم انتصروا بالنار، ثم انهاروا حين خسروا المعنى ، والآن، تسير إسرائيل في الطريق ذاته.
اذن لم ينتحر السنوار ولم ينحر غزة بل أطلق الرصاصة الأولى على كذبة عمرها 75 عامًا اسمها “إسرائيل لا تُهزم”.
ولم تمت غزة بل نهضت من رمادها ومن وسط الركام والحصار لتصبح عنوانا وصوت المقهورين في كل مكان.
غزة اليوم، ليست مجرد مدينة محاصرة، بل رمز إنساني عالمي لمعنى الرفض فهي الأرضٌ التي قالت “لا” حين صمت الجميع، ودفعت ثمن الحرية عن أمةٍ كاملة.
لقد اختارت أن تموت لتعيش، وأن تكون شاهدة على زمنٍ فقد فيه العالم ضميره لكنها لم تفقد روحها.
وخلاصة طوفان الأقصى أفضت انه لم يكن مغامرة عسكرية بل تحوّلًا نفسيًا وسياسيا وأخلاقيا وإنسانيًا عميقًا من الخضوع إلى المقاومة ومن الصمت إلى الصرخة ومن الهامش إلى مركز الوعي العالمي.