شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : أوراق ليبرالية . هبوط الإنسان المصري على سُلَّم الوعي وصعود التخلف والإصلاح المؤجَّل (٦)

ما زلتُ أؤمن أن الليبرالية ليست مذهبًا سياسيًا، بل طريق خلاصٍ للإنسان المقهور.
فهي تبدأ من الوعي وتنتهي بالكرامة، وتعيد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة، بين الحرية والمسؤولية، بين الفكر والواقع.
هذه الورقة ليست درسًا في الفلسفة، بل محاولة لفهم العطب الذي جعل المصري — لعقود — يسكن قفصًا مفتوح الباب، يهاب الخروج لأنه لم يتعلّم كيف يطير.

لا تبدأ الحكاية من الاقتصاد، ولا تنتهي عند السياسة.
تبدأ من الإنسان ذاته، من ذاك الكائن الذي تعلّم الخضوع أكثر مما تعلّم السؤال، وأتقن النجاة بالصمت أكثر مما تمرّس في التعبير.
إنّ مأزق مصر ليس نقصًا في الموارد، بل في الإرادة. ليس في فقر الخزائن، بل في فقر الوعي، وفي قهرٍ مزمنٍ تسرّب إلى النفوس حتى صار جزءًا من الملامح.

الإنسان المقهور ليس شخصية رمزية في كتاب علم نفس اجتماعي، بل هو مواطن واقعي يعيش بيننا.
يبتسم خوفًا، ويصمت دهشة، ويكذب ليحيا.
يتنازل عن حقه في الحلم لأنه أُقنع أن الحلم رفاهية، وأن العدل خرافة، وأن الحرية مؤامرة.


وهكذا يصبح الاستبداد ليس سلطةً فقط، بل ثقافةً كاملة تتكاثر بالوراثة، وتُغرس في المدارس والبيوت والإعلام.

حين تتحوّل السلطة من أداة للحكم إلى أداة للهيمنة، تنكسر الإرادة العامة.
وعندما يخاف المواطن من الدولة أكثر مما تخاف الدولة من المواطن، يصبح الخوف دستورًا غير مكتوب.
عندها يوجّه الإنسان قهره لا إلى الجلاد، بل إلى نفسه، إلى جاره، إلى زوجه، إلى العامل الذي يسبّ الحياة لأنه لا يستطيع سبّ الحاكم.
تلك هي العدوانية الأفقية التي تلد مجتمعًا يتصارع في القاع بدل أن يصعد إلى النور.

لا يمكن أن نتحدّث عن إصلاحٍ حقيقي ما لم نُعد بناء الإنسان الحرّ الواعي.
فكلّ إصلاحٍ اقتصادي لا يقوم على إصلاحٍ ثقافيّ وفكريّ وإنسانيّ، هو ترميم لجدارٍ يتهاوى.


الليبرالية، في جوهرها، ليست شعارًا غربيًا ولا نظرية سياسية باردة، بل هي دعوة لتحرير الإنسان من الخوف، من التبعية، من تقديس السلطة، من تحويل المواطن إلى رقمٍ في سجلّ أو تابعٍ في طابور.

الإصلاح الذي تحتاجه مصر ليس برنامجًا إداريًا ولا مشروعًا حكوميًا عابرًا، بل ثورة وعي.
إصلاح يبدأ من التعليم لا من القرارات، من احترام الفرد لا من تزيين الشعارات، من إعادة الاعتبار للعقل لا من ترديد الأوامر.
فحين يتحرّر العقل من القيد، يتحرّر الاقتصاد من العجز، وتتحرّر السياسة من الوهم، ويولد الإنسان الجديد الذي يعرف أن الكرامة ليست منحة، بل حقٌّ لا يُوهب ولا يُسلب.

ليس التخلف قدرًا، بل نتيجة. وليس الإصلاح حلمًا، بل مسار.
إنّ الطريق إلى المستقبل يبدأ من مرآة الذات، حين يجرؤ كل مصريّ على أن يسأل نفسه: ما الذي يمنعني من أن أكون حرًا؟ وما الذي يجعلني أقبل الهوان وكأنه سلام؟
تلك الأسئلة هي مفاتيح الخلاص.
فحين يتحرّر الوعي، يسقط القهر، ويُبعث الوطن من جديد، كما يُبعث القلب بعد موتٍ طويل.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى