مقالات وآراء

د.محمد عماد صابر يكتب: رفض حماس المشاركة في مراسم التوقيع بشرم الشيخ!

“موقف المقاومة بين السياسة والشرع”


أعلنت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) أنها لن تشارك في أي مراسم رسمية لتوقيع اتفاق وقف الحرب في غزة، رغم قبولها المبدئي ببنود الاتفاق التي تم التفاوض عليها بوساطة دولية وإقليمية. وقد أثار هذا الإعلان موجة من التساؤلات حول دلالاته السياسية والشرعية، وأثره على مستقبل الاتفاق، وعلى موقع حماس في معادلة الصراع والمقاومة بعد عامين من العدوان الغاشم على غزة. ولتبيان هذا الأمر نقول وبالله التوفيق.

أولًا: القراءة السياسية للقرار.
1- رفض الرمزية لا المضمون.


من الناحية السياسية، لا يعني رفض حماس المشاركة في التوقيع أنها ترفض الاتفاق نفسه، بل ترفض رمزية المشهد السياسي الذي قد يُراد له أن يُظهرها كطرف «منكسر» يوقّع وثيقة إنهاء الحرب بشروط العدو.
القرار هو موقف من الصورة لا من المضمون، أي رفض الظهور بمظهر “الطرف المستسلم”، وهو ما يتعارض مع سردية المقاومة والصمود التي شكلت وجدان الشعب الفلسطيني والأمة. كما قال الدكتور بشير نافع (الجزيرة نت، 2025/10/11): “حماس تدرك أن الصورة الرمزية للتوقيع أهم من النص المكتوب، فهي لا تريد أن تكون جزءًا من مشهد سياسي يوظَّف لتبييض وجه الاحتلال وإظهار الحرب كاتفاق متكافئ”.

2- الحفاظ على الشرعية الشعبية والمصداقية.
حماس خرجت من الحرب بمكانة مقاومة صلبة رغم الدمار. وهي اليوم تحافظ على الشرعية الشعبية عبر موقف يعبّر عن الكرامة والاستقلالية. المشاركة في مراسم ترعاها الولايات المتحدة— الداعم الأول للعدوان— ستُفسَّر جماهيريًا كـ«انحناء سياسي» بعد ملحمة جهادية.


إذن، القرار يعكس حرص الحركة على اتساق الخطاب السياسي مع المبدأ الجهادي الذي تأسست عليه.

3- رسالة إلى الوسطاء والمجتمع الدولي.
برفضها المشاركة، تُرسل حماس رسالة مزدوجة:
إلى الوسطاء: أن الحركة ليست طرفًا تابعًا يُؤمر فينصاع، بل طرف رئيسي يملك قراره.
وإلى الاحتلال: أن إنهاء الحرب لا يعني نهاية الصراع، وأن التوقيع الشكلي لا يُنهي المقاومة، بل قد يكون بداية مرحلة جديدة من التوازن بالقوة.
تحليل مركز دراسات الشرق (القاهرة، أكتوبر 2025): “حماس تدير المرحلة بدقة، فهي تفاوض من موقع القوة لا من موقع الضعف، وتسعى لتفادي أي التزام قانوني دولي قد يُستخدم لاحقًا ضدها في مجلس الأمن أو المحكمة الجنائية”.

ثانيًا: التحليل الاستراتيجي للموقف.
1- تكتيك تفاوضي متقدّم.


عدم التوقيع الرسمي يُبقي باب المناورة مفتوحًا أمام الحركة في حال نكث الاحتلال للاتفاق أو تلاعب بالبنود التنفيذية. فالتوقيع الرسمي يربطها قانونيًا ببنود قد تُفرغ المقاومة من مضمونها، بينما الرفض يمنحها حرية الحركة الاستراتيجية.

2- حماية من الفخ القانوني والسياسي.
الاحتلال والإدارة الأمريكية يسعيان لفرض اتفاق يُحمّل حماس التزامات قانونية تُصنفها كـ«طرف مسلح غير شرعي». لذلك فإن عدم التوقيع يحميها من التورط في التزامات دولية تُضعف شرعيتها كمقاومة تحرر وطني.
وفق تقرير معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS، 9 أكتوبر 2025): “إسرائيل كانت تراهن على مشهد توقيع حماس لتثبيت أنها طرف مسؤول عن وقف النار، بما يُتيح ملاحقتها في حال أي خرق مستقبلي”.

3- تثبيت معادلة «لا نُهزم بالتوقيع».
في الوعي الاستراتيجي للمقاومة، التوقيع العلني بعد حرب مدمرة هو رمز للهزيمة، بينما الرفض هو رمز للثبات. وقد اختارت حماس أن تحافظ على الصورة الذهنية التي رسختها في وعي الأمة: أنها خرجت من الحرب مرفوعة الرأس، ولم توقّع على استسلام بل فرضت هدنة بشروط المقاومة.

4- أثر القرار على مسار الاتفاق.
قد يؤخر الإجراءات التنفيذية الأولى (مثل تبادل الأسرى أو دخول فرق الإعمار) بسبب غياب التوقيع الرسمي.
لكنه في الوقت نفسه يرفع سقف التفاوض في المراحل اللاحقة، لأن الطرف الذي لم يوقع يبقى فاعلًا حراً يمكن العودة إليه لتثبيت ضمانات إضافية.
ويمنح حماس مرونة تكتيكية لاستثمار التنفيذ الجزئي في تحسين موقعها السياسي الداخلي والإقليمي.

ثالثًا: التحليل الشرعي.
1- الأصل في الهدنة والاتفاقات.


الهدنة في الشرع جائزة إذا كانت تحقق مصلحة للمسلمين وتمنع الضرر عنهم، كما قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61].
لكن بشرطين:
(أ) ألا يكون فيها تنازل عن الحقوق الثابتة أو تفريط في أرض أو مقدس.
(ب) وألا تعني وقف الجهاد بمعناه العام، أي مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المشروعة.
وبهذا الاعتبار، فإن رفض حماس المشاركة في التوقيع هو موقف يحمي الجانب الشرعي من الوقوع في شبهة «الإقرار بشرعية الاحتلال»، وهو ما يتفق مع فقه السياسة الشرعية في حفظ المقاصد الكبرى: الدين، النفس، والكرامة.

2- فقه الموازنات والمصالح.
منهج الحركات الإسلامية في التعامل مع العدو يقوم على الموازنة بين المصلحة والمفسدة.
فالمصلحة في وقف القتال لالتقاط الأنفاس، لكن المفسدة في أن يظهر المجاهد كالمُستسلم.
فكان الموقف الشرعي الحكيم هو القبول العملي دون المشاركة الشكلية، وهو ما عبّر عنه ابن القيم بقوله: “ليس العاقل من يعرف الخير من الشر، ولكن من يعرف خير الخيرين وشر الشرين”. (إعلام الموقعين، ج4 ص19).

3- تأصيل الموقف في السنة.
النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية قَبِلَ اتفاقًا فيه تنازلات شكلية كاسم “محمد بن عبد الله” بدل “رسول الله”، لكنه لم يفرّط في أصل القضية.
أما حماس اليوم فقد رفضت الشكل الذي يُفقدها المعنى، فالموقف هنا عكس الحديبية من حيث الصورة لا الجوهر: النبي صلى الله عليه وسلم قَبِل الشكل لحفظ المضمون.
حماس رفضت الشكل لحفظ المضمون.
وهذا من فقه المآلات الذي هو ركن من أركان السياسة الشرعية.

رابعًا: البعد الرمزي والرسالي.
هذا القرار يعيد توجيه البوصلة إلى أن المقاومة ليست مجرد طرف سياسي في مفاوضات، بل حركة عقيدة وجهاد لا تساوم على كرامة الأمة.
في زمن تُصنع فيه “الصور الإعلامية” لتزوير الواقع، كان رفض الصورة هنا أصدق من ألف توقيع.
فالمراسم التي تُقام تحت إشراف أمريكا، الداعم الأكبر للعدوان، لا يمكن أن تكون «عرس سلام»، بل «تزيين لهزيمة أخلاقية» تُرفض شرعًا وسياسة.

خامسًا: النتائج والتوصيات الاستراتيجية.
1- تكريس شرعية المقاومة كفاعل مستقل، لا كطرف تابع في منظومة دولية منحازة.

2- إحباط المخطط الأمريكي لتحويل الاتفاق إلى منصة لتجريد حماس من صفتها الجهادية.

3- تعزيز موقع حماس في الداخل الفلسطيني كرمز للصمود والكرامة، خاصة أمام الفصائل الأخرى.

4- منح الحركة مرونة سياسية لإعادة ضبط الموقف في حال خرق العدو للاتفاق.

5- إعادة صياغة مفهوم الهدنة الشرعية بما يخدم المشروع التحرري ويمنع الوقوع في فخ “السلام المذل”.

خلاصة الأمر: قرار حماس عدم المشاركة في مراسم التوقيع ليس تفصيلًا بروتوكوليًا، بل رسالة استراتيجية وشرعية مركّبة: أن المقاومة لا تُهزم بالتوقيع، ولا تُدار بالإملاء، وأنها ما زالت تحتكم إلى قاعدةٍ شرعيةٍ ثابتةٍ: “نُعطي الدنية في دنيا، ولا نُعطي الدنية في ديننا وكرامتنا.”
بهذا الموقف، تكتب حماس صفحة جديدة في تاريخ الوعي الإسلامي المقاوم، لتقول للعالم: “لن نوقّع على الهزيمة ولو سُمّيت سلامًا.”

📚 المراجع:

  1. القرآن الكريم، سورة الأنفال: الآية 61.
  2. ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج4، ص19.
  3. معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، تقرير “Gaza After War”، أكتوبر 2025.
  4. الجزيرة نت، مقال د. بشير نافع، 11/10/2025.
  5. مركز دراسات الشرق (القاهرة)، تحليل موقف حماس من مراسم التوقيع، أكتوبر 2025.
    ‏6. Sky News Arabia – 12/10/2025، تصريح حسام بدران.
    ‏7. Arabic RT – 12/10/2025، “حماس تفجر مفاجأة بشأن مشاركتها في التوقيع”.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى