يوسف محمد يكتب: الاختفاء القسري.. الجريمة التي لا تسقط بالتقادم

في اليوم الدولي لمساندة ضحايا الاختفاء القسري، تمر الذكرى مثقلة بوجعٍ إنساني لا يهدأ، وبملفاتٍ مفتوحة منذ سنوات تبحث عن العدالة في بلدٍ يصرّ على أن يُبقي الحقيقة طيّ الكتمان.
فمنذ عقدٍ كامل، تتوالى التقارير الحقوقية التي تكشف أن الاختفاء القسري في مصر لم يعد حادثًا استثنائيًا، بل أصبح سياسة ممنهجة ومدعومة من أجهزة الدولة المختلفة، تُستخدم كسلاح لإسكات الأصوات المعارضة، وكأداةٍ لبثّ الخوف في نفوس المجتمع.
من أداة قمع إلى سياسة دولة
تقرير حملة أوقفوا الاختفاء القسري الأخير، الذي يغطي عشر سنوات (2015–2025)، يرسم صورة صادمة: أكثر من 4828 حالة اختفاء قسري من بينهم 185 سيدة، فيما لا يزال 400 مواطن مصيرهم مجهولًا حتى اليوم.
تتحول المأساة هنا من مجرد انتهاكٍ لحقوق الإنسان إلى نظامٍ كاملٍ من الإنكار والتواطؤ، حيث تغيب المحاسبة، وتتبادل مؤسسات الأمن والقضاء الأدوار لتبرير الجريمة بدلًا من منعها.
العدالة الغائبة
بدل أن تكون النيابة العامة حصنًا للعدالة، أصبحت جزءًا من المنظومة التي تغضّ الطرف عن البلاغات والشكاوى.
القوانين التي كان يُفترض أن تحمي المواطنين، مثل قانون مكافحة الإرهاب، أصبحت تُستخدم لتبرير الاحتجازات التعسفية.
أما جلسات تجديد الحبس عبر «الفيديو كونفرنس» فقد زادت من عزلة الضحايا، وقطعت آخر خيوط التواصل بينهم وبين العالم الخارجي.
«الغايب فين؟».. صرخة لكسر الصمت
في مواجهة هذا الواقع القاسي، أطلقت حملة أوقفوا الاختفاء القسري مبادرتها الجديدة تحت عنوان «الغايب فين؟»، لتكسر جدار الخوف، وتعيد السؤال إلى واجهة الوعي العام.
هذه الحملة لا تبحث فقط عن المفقودين، بل تُعيد طرح قضية العدالة، وتطالب بكشف الحقيقة ومحاسبة الجناة، لأن السكوت عن الجريمة جريمة أخرى.
19 ألف ضحية.. ولا عقاب
أما مركز الشهاب لحقوق الإنسان فقد وثّق ما يزيد عن 19,885 حالة اختفاء قسري منذ عام 2013، بينها 1,227 حالة في عام 2025 وحده، إضافة إلى 65 ضحية قُتلوا خارج نطاق القانون.
تلك الأرقام ليست مجرد إحصاءات؛ بل هي حيواتٌ توقفت فجأة، وأسرٌ تعيش على الأمل والانتظار، وعدالةٌ غائبة تتآكل مع مرور الوقت.
مقبرة الأحياء
نشرت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان شهادة لأحد الناجين من مقر الأمن الوطني بالعباسية، وصف فيها المكان بأنه “مقبرة الأحياء”.
قال الشاهد:
“رأيت نساءً يتعرضن للتعذيب والتحرش أمامنا، وعشنا في غرفٍ مكتظة بلا هواء ولا ضوء، كنا أرقامًا بلا أسماء، نعيش على الخوف والصمت.”
هذه ليست شهادة فردية، بل مرآة لواقعٍ يتكرر خلف الأبواب المغلقة، في أماكن لا يزورها الضوء ولا تعرف معنى القانون.
خاتمة
في كل عام، حين يأتي يوم 30 أغسطس، تتجدد النداءات ذاتها، وتتكرر الأسئلة ذاتها:
أين الغايب؟ ومتى تعود العدالة؟
الاختفاء القسري ليس فقط جريمة ضد الفرد، بل ضد الإنسانية جمعاء، ضد الذاكرة، وضد فكرة العدالة نفسها.
فالجريمة التي تُخفي إنسانًا، تُخفي معها ضمير الدولة، وتكشف لنا أن العدالة في مصر ما زالت في غياهب الغياب.