
شهدت المرحلة الانتقالية بعد عام 2024 إعادة هيكلة لمؤسسات الدولة، وخصوصا وزارة الخارجية، لتتوافق مع الرؤية الجديدة القائمة على الانفتاح والشفافية.
وقد تم تبني نهج الدبلوماسية الناعمة التي تعد أحد فروع القوة الناعمة في العلاقات الدولية.
وتعني استخدام الأدوات غير القسرية مثل الثقافة، الحوار، الإعلام، المساعدات الإنسانية، والاقتصاد من أجل تحقيق أهداف الدولة دون اللجوء إلى الضغط السياسي المباشر أو القوة العسكرية.
وهي تقوم على بناء صورة إيجابية للدولة في الخارج من خلال أدوات متعددة تهدف إلى التأثير في الرأي العام الدولي وبناء جسور من الثقة والتعاون.
الخطاب السوري السابق
في فترة ما قبل عام 2011، اتسمت لغة الخطاب السوري في المحافل الدولية بالطابع الرسمي الجامد والمباشر، وغلب عليها المنحى الأيديولوجي المصحوب بقدر محدود من الانفتاح الإعلامي والثقافي.
ومع اندلاع الأحداث في عام 2011، تحول الخطاب إلى صدامي-دفاعي أمام المجتمع الدولي، متهما الغرب بالمؤامرة ضد سوريا وإثارة الفتنة الداخلية.
وقد برز ذلك في تصريحات الرئيس السابق بشار الأسد مثل قوله:
“نحن في حرب حقيقية، ليس مع الإرهاب فقط، بل مع من يقف خلفه ويموله.”
خطاب أمام مجلس الشعب، يوليو/تموز 2012 – وكالة الأنباء السورية سانا
الأحداث الدامية التي شهدتها البلاد خلال تلك المرحلة دفعت النظام السابق إلى اتخاذ موقف دفاعي متصلب في معظم خطاباته، ما أدى إلى عزلة سياسية واقتصادية عميقة عن المجتمع الدولي.
ومع مرور السنوات، تراكمت العقوبات الغربية على سوريا، وكان أبرزها قانون قيصر الذي فرض عام 2019، وشكل ذروة الضغط الاقتصادي والسياسي على دمشق.
من المواجهة إلى لغة الحوار والإنسانية
في مرحلة ما بعد عام 2024، وبعد سقوط النظام السابق تحديدا، شهد الخطاب السياسي السوري تحولا جذريا من اللغة الحادة إلى لغة الحوار والتواصل.
أصبح التركيز منصبا على النفوذ الثقافي والإنساني والاقتصادي كوسائل لبناء الثقة وإعادة العلاقات مع العالم.
بدت سوريا كأنها تعيد اكتشاف لغة جديدة في السياسة، لغة خالية من التهديد والاتهام، تركز على المعاناة الإنسانية، والتنمية، والازدهار، وإعادة الإعمار بدلا من الصراع الأيديولوجي الذي طبع الخطاب السابق.
من خطاب التحدي إلى خطاب التعاون
هذا التحول لم يكن ترفا سياسيا، بل ضرورة وطنية فرضتها المتغيرات الإقليمية والدولية لإنهاء العزلة وإعادة دمج سوريا في النظام الإقليمي والدولي.
وقد برز هذا التوجه في عدد من تصريحات وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، ومنها قوله:
“نطمح أن تعيش شعوب الشرق الأوسط وسوريا بأمان… وأن نبني لغة حوار.”
تصريح إعلامي – وكالة الأناضول، 2025/5/3
هذا النوع من التصريحات عكس إدراكا جديدا لأهمية الخطاب المتزن والاعتماد على الحوار بدل الصدام، والمرونة بدل التشدد، لتحقيق المصالح الوطنية.
دور الدبلوماسية الناعمة في رفع العقوبات وإلغاء قانون قيصر
بعد أشهر من الزيارات والاتصالات الدبلوماسية المكثفة بقيادة وزير الخارجية أسعد الشيباني، وبتوجيه من الرئيس أحمد الشرع، تزايدت الخطابات الرسمية التي تتحدث عن التعافي وإعادة الإعمار والانفتاح.
كانت النتيجة إصدار أمر تنفيذي أمريكي في 30 يونيو 2025 يقضي بإلغاء بعض العقوبات المفروضة على سوريا.
وفي 1 يوليو 2025 دخل القرار حيز التنفيذ، مدفوعا بحملات دبلوماسية وإعلامية مكثفة ركزت على رسائل منفتحة مثل:
“سوريا منفتحة على التعاون الاقتصادي والإنساني.”
تصريح رسمي – وكالة سانا، يوليو 2025
هذا التوجه أسهم في تحسين صورة سوريا لدى الرأي العام الدولي، وأعادها تدريجيا إلى محيطها العربي والدولي، حيث ساهمت عدة قوى إقليمية ودولية في تسهيل الانفتاح وتهيئة المناخ لرفع العقوبات.
الدور العربي
كان للانفتاح العربي وخصوصا من دول مثل الأردن، مصر، السعودية، قطر والإمارات العربية المتحدة دور محوري في كسر العزلة السياسية التي عاشتها دمشق.
هذه الدول عملت كجسر حوار غير معلن بين سوريا والولايات المتحدة، مركزة على خطاب “إعادة الإعمار من أجل الاستقرار”، وهو ما ساعد واشنطن على تبرير رفع بعض القيود ضمن مقاربة (الخطوة مقابل الخطوة).
كما ساهمت زيارات رجال الأعمال العرب، وتوقيع اتفاقيات اقتصادية أولية، في تعزيز الثقة السياسية والاقتصادية، وفتح المجال التدريجي أمام الاستثمارات العربية في السوق السورية.
دور تركيا
من جانب آخر، كان لتحول الموقف التركي أثر مباشر في تخفيف التوتر الإقليمي.
فبعد سنوات من القطيعة، بدأت أنقرة في عام 2024 بتطبيق سياسة “الانفتاح الحذر” تجاه دمشق، مدفوعة باعتبارات داخلية (ملف اللاجئين) وأمنية (الحدود الشمالية).
جرت لقاءات أمنية واقتصادية برعاية روسية-إيرانية، تمهيدا لاستعادة العلاقات الدبلوماسية تدريجيا.
هذا المسار التركي ساهم في تهدئة الملف الأمني الحدودي، وفتح الباب أمام تعاون إنساني ولوجستي في الشمال السوري، ما عزز مصداقية الخطاب السوري الجديد القائم على الحوار.
دور الصين
أما الصين فقد أدت دورا داعما على المستوى الدولي، مستفيدة من موقعها كعضو دائم في مجلس الأمن.
دعمت بكين الموقف السوري عبر خطاب التنمية والاستقرار، مؤكدة على ضرورة معالجة الأزمة بالوسائل السلمية ورفض سياسة العقوبات الجماعية.
كما أبدت استعدادها للمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار ضمن إطار مبادرة الحزام والطريق، وقدمت دعما دبلوماسيا في الأمم المتحدة لجهود رفع القيود الاقتصادية.
هذا الدور الصيني أكسب الموقف السوري بعدا عالميا، وأعطى مؤشرات للغرب بأن دمشق أصبحت منفتحة على التوازن الدولي لا التبعية لمحور واحد.
التوازن الإقليمي والدولي
إن تلاقي مصالح هذه الأطراف – العربية، التركية، الصينية مع التوجه السوري الجديد نحو الدبلوماسية الناعمة خلق بيئة سياسية مرنة دفعت القوى الغربية لإعادة النظر في سياسات العزلة.
وبذلك، انتقل المشهد السوري من دائرة العقوبات والمواجهة إلى دائرة التفاهم والمصالح المتبادلة.
وفي 26 أغسطس 2025 تم رسميا شطب لوائح العقوبات السورية (Syrian Sanctions Regulations) من السجل الفيدرالي الأمريكي،
المصدر ofac.treasury.gov
وفي 15 أكتوبر 2025، أعلن مجلس الشيوخ الأمريكي عن إلغاء قانون قيصر بشكل رسمي، في خطوة وصفت بأنها تتويج لمرحلة جديدة من الانفراج السياسي والدبلوماسي في العلاقات السورية-الأمريكية.
الخاتمة
ربما لم تنته رحلة التعافي السوري بعد، لكنها بدأت بالفعل بلغة جديدة، لغة الدبلوماسية الهادئة.
لغة استبدلت المواجهة بالانفتاح، والاتهام بالتعاون، وأسهمت في تراجع حدة الخطاب الأمريكي تجاه دمشق.
لقد تحول الملف السوري من قضية عقوبات إلى شراكة محتملة في الاستقرار الإقليمي، بفضل استراتيجية واعية اعتمدت على القوة الناعمة، والانفتاح الإقليمي، والتوازن الدولي بدل الصدام والعزلة.