
نعم، أُحبّ… لأنّي لا أكره
سألني صديقٌ ذات مساء: – لماذا تُحبّ فلانًا رغم كل ما فعله بك؟
ابتسمتُ، ولم أُجب فورًا، لأنّ الجواب على هذا السؤال لا يُقال بعبارة، بل يُكتَب بعمرٍ كامل من التجربة.
نعم، أُحبّ… لأنّي لا أكره.
فالكراهيةُ — كما تعلّمتُ — سجنٌ آخر لا يقلّ قسوةً عن سجن الحديد، وأنا الذي خرجتُ من الجدران الظاهرة، لا أريد أن أبقى أسيرَ الجدران الخفية في صدري.
الحبّ — في جوهره — ليس مكافأةً ولا استحقاقًا، بل شجاعةُ أن تظلّ إنسانًا حين يُراد لك أن تكون نسخةً من قسوة الآخرين.
أن تحبّ يعني أن تُبقي قلبك طريًّا في عالمٍ خشن، أن ترفض منطق “العين بالعين”، وأن تؤمن أنّ البصيرة أجمل من البصر.
لا أحبّ فلانًا لأنّه لم يُخطئ، بل لأنّي لا أريد أن أُخطئ مثله.
ولا أسامحه ضعفًا، بل قوّةً تجعلني أكبر من جُرحٍ أراد أن يصغّرني.
إنّ الذين يظنّون أنّ التسامح ضعفٌ، لا يعرفون أنّ الكبرياء الحقّ هو أن تُطفئ النار التي تلتهمك، لا أن تزيدها وقودًا.
منذ زمنٍ بعيدٍ أدركت أنّ الحبّ ليس نقيض الكراهية فحسب، بل علاجها الوحيد.
فالقلب الذي يكره لا يسكنه الله، ولا يسمع صوته.
والمجتمع الذي يُربّي أبناءه على الكراهية لن يعرف يومًا طعم العدالة أو السلام.
لهذا أومن أنّ حبّ الإنسان للإنسان، وحبّ الوطن لأبنائه، وحبّ الحاكم لشعبه — إن وُجد — هي درجاتٌ من الإيمان بالحرية نفسها، حرية ألا نؤذي، وألا نُقصي، وألا ننتقم.
في الليبرالية، كما في الحبّ، المبدأ واحد: أن يكون الآخر مختلفًا، ولا يزال جديرًا بالاحترام، وبالرحمة، وبالحقّ في أن يكون.
ليست الحرية أن أُشبهك، بل أن أختلف عنك دون أن تكرهني.
وليست المحبّة أن تذوب فيّ، بل أن ترى في اختلافنا جمالًا لا تهديدًا.
لذلك حين أقول: “نعم، أُحبّ”، فأنا لا أُعلن عاطفةً، بل أُعلن موقفًا فكريًّا — موقفًا من الحياة، من الناس، من الوطن، من الله.
الحبّ في قاموسي ليس نزهةً بين قلبين، بل ثورةٌ ضد القسوة، وضد فكرة أنّ القلوب تُغلق كالأبواب.
أُحبّ لأنّي أؤمن أنّ الكراهية بداية كلّ استبداد، وأنّ أول طاغيةٍ يسكننا هو الحقد.
من أحبّ الناسَ لا يظلمهم، ومن أحبّ الحرية لا يقهرها، ومن أحبّ الحياة لا يقتلها باسم الدين أو الوطن أو العشق.
لستُ قدّيسًا، لكنّي تعلّمت أن أحبّ حتى الذين آلموني، كما يُربّت الطبيب على الجرح قبل أن يُضمّده، لأنّ الشفاء لا يبدأ إلا من اللمس، ولا تنطفئ النار إلا حين تُقابلها بالماء.
أُحبّ لأنّ الله لم يخلق قلبي ليكون مقبرةً للأحقاد، بل جسرًا يعبر عليه النور نحو الغفران.
وأُحبّ لأنّ في الحبّ حياةً أطول من أعمارنا، ونورًا أبقى من كلّ ليلٍ سياسي أو إنساني.
لذلك أكتب هذه الورقة امتدادًا لما بدأته في أنا والحب، فإن كانت تلك الورقة حديثًا عن الحبّ كقيمةٍ إنسانية، فهذه حديثٌ عن الحبّ كفلسفةٍ في الحرية.
وما بين الإنسان والحرية، تبقى الكراهيةُ هي الجدار الأخير الذي يجب أن نسقطه، قبل أن نُعلن أنفسنا أحرارًا بحقّ.
نعم، أُحبّ… لأنّي لا أكره.
لأنّني لا أريد أن أكون شبيهًا بمن أوجعني.
ولأنّني أدرك، في لحظة صفاءٍ نادرة، أنّ الحبّ — وحده — هو الطريقة الوحيدة لكي ننتصر دون أن نُهزم.