
يتوقف المتتبّع للتطورات الإقليمية، أمام خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي ألقاه في الكنيست “الإسرائيلي” يوم 13 تشرين الأول/ أكتوبر الحالي، خطاب مسرحي استعراضي حصل فيه على 22 تصفيقة وقوفاً من أعضاء الكنيست، مقارنة مع 58 تصفيقة وقوفاً من أصل 79 حصل عليها نتنياهو أثناء إلقاء خطابه في الكونغرس الأميركي يوم 24 تموز/ يوليو 2024!
ترامب وصف بكلّ عنجهية، أنّ ما جرى في غزة كان “نهاية عصر الإرهاب والموت”، مشيراً ضمناً الى المقاومة الفلسطينية في غزة، لا سيما حماس، وأكد أنّ “إسرائيل” حققت ما يمكن تحقيقه بالقوة العسكرية، وقد حان الوقت لترجمة تلك “الانتصارات” الى “سلام” و”ازدهار” في المنطقة! هذا يعني أنّ ترامب يقرّ بأنّ “السلام الإسرائيلي” في المنطقة يُفرض عن طريق القوة!
استعرض ترامب ما أسماه الجهادية والعداء للسامية، حيث حصر العرق السامي باليهود دون غيرهم من الشعوب السامية الأخرى في المنطقة، وجعلها حكراً على اليهود!
فيما الوضع على الأرض لا يزال هشاً، رغم الاتفاق على وقف إطلاق النار، وطالما أنّ القضايا الجوهرية المتعلقة بمستقبل غزة، ومصير حماس، ودورها في القطاع مستقبلاً، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لم تحلّ جذرياً.
بعد حربي غزة عام 2014، وعام 2021 تمّ الإعلان عن نهاية مماثلة، إلا أنّ المواجهات العسكرية كانت تتجدّد مع الأشهر والسنوات.
ترامب تباهى قائلاً إنّ “إسرائيل” حصلت على كلّ ما يمكن أن تحصده عبر القوة، وأنه حان الوقت لتحويل هذا الحصاد الى سلام وازدهار! هنا أقرّ ترامب وبرّر استخدام القوة العسكرية بدلاً من الحلول الدبلوماسية، دون الأخذ بالاعتبار، الوقائع والدروس السابقة من أنّ السلام القائم على القوة، والانتصار الأحادي الجانب، انتصار مؤقت، لن يؤدي مطلقاً الى سلام دائم، وإنما الى سلام الأمر الواقع الذي لن يدوم وإنْ طال وقته.
أين الشعب الفلسطيني في غزة، وومعالجة الحرمان والقهر والفقر الذي يعيشه، والذي لم يكن طرفاً في خطاب “الازدهار” لترامب! لم يذكر ترامب مطلقاً في خطابه السلطة الفلسطينية، وهو يدعو الى إعادة إعمار غزة! مَن سيعيد إعمارها؟! عن طريق سلطة محلية دون حماس وكيف سيتمّ ذلك؟! هل الإعمار سيتمّ تحت إشراف “مجلس السلام” وفق شروط سياسية يفرضها، ليكون بمثابة “مجلس وصاية دولية” على قطاع غزة! ألم تفشل المبادرات السابقة التي أطلقت بعد العدوان الإسرائيلي على غزة عامي 2014، و2021، وفشلت معها عملية التمويل بسبب الخلافات السياسية واستئناف العمليات العسكرية؟!
هاجم ترامب رؤساء أميركيين سابقين أضعفوا “إسرائيل” (!!)، وأعرب عن افتخاره بانسحابه من الاتفاق النووي مع إيران، دون الإشارة إلى أنّ انسحابه لم يحقق السلام والاستقرار، ولم يمنع إيران في ما بعد، من امتلاك القدرات النووية المتقدّمة، بل أجّج قراره المتهوّر التوترات الإقليمية، حيث لا يزال قرار انسحاب ترامب من الاتفاق النووي يثير خلافات في هذا المجال داخل الولايات المتحدة نفسها!
اللافت في خطاب ترامب أنه لم يذكر عن عمد، الدولة الفلسطينية، ولا القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، والصراع “الإسرائيلي” ـ الفلسطيني، ما يُبيّن بشكل قاطع أنّ ترامب يتنصّل من حلّ الدولتين، ويرفض قيام دولة فلسطينية مستقلة، وهذا ما يبدّد ثقة الفلسطينيين بالمفاوضات اللاحقة، التي لن تؤدّي إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
لقد أثبت ترامب أنه كان وراء الحرب الإسرائيلية المدمرة على غزة بكلّ قوة، في الوقت الذي يعتبر نفسه رجل السلام، وبالتالي يستحق جائزة نوبل! في الكنيست قال ترامب: كان نتنياهو يتصل بي مراراً ويطالب بشتى أنواع الأسلحة، وأنتم أحسنتم استخدامها! إذن، لم يتوقف ترامب وباعترافه علناً عن تزويد “إسرائيل” بكلّ أنواع السلاح، ودعمه لحربها ومجازرها وإبادتها الجماعية بحق سكان غزة.
لقد كان خطاب ترامب أشبه بمسرحيّة واستعراض للقوة، من على مسرح الكنيست الإسرائيلي وجّه رسالة للعالم من أنّ الولايات المتحدة تمتلك من الأسلحة المتفوقة ما لا يمتلكه أحد، وهذا بمثابة إنذار علني موجّه إلى كلّ من يمسّ بمصالح الولايات المتحدة في العالم وأمنها القومي. ترامب بخطابه استمال اليمين المتطرف الإسرائيلي، وتجاهل عمداً جذور الصراع الحقيقي في المنطقة، ولم يطرح حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، مثله كمثل سائر الرؤساء الأميركيين السابقين، المنحازين كلياً إلى دولة الاحتلال الإسرائيلي في كلّ ما تفعله وتقوم به من احتلالات وحروب.. بذلك عمّق ترامب هوة الصراع بدل ردمها!
أثبت ترامب أنّ السلام الذي يريده هو سلام أميركا و”إسرائيل” الذي لا ينفصل. إنه سلام القوة والأمر الواقع دون الأخذ بالاعتبار مصالح دول المنطقة بحقوق شعوبها وأمنها واستقرارها، وإنْ تحدث عنها الرئيس الأميركي بإسهاب وبمفرداته السياسية والأدبية المبهرة التي لن تسمن، ولن تعطي نتائجها الإيجابية المستقبلية، طالما أنّ سياسات الولايات المتحدة منحازة بالمطلق الى جانب دولة الاحتلال، غير مكترثة بالقرارات الأممية، ولا بالاتفاقيات الموقعة ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.
في شرم الشيخ تمّ توقيع الاتفاق الجديد، ومن شرم الشيخ أعلن ترامب “عن يوم عظيم للشرق الأوسط”، حيث كان فيه ترامب المعلم، والآمر، والموجّه، والكلمة الفصل بين القادة، يأخذ المبادرة، يخطط، يقرّر، يأمر، وينفذ، وما على الآخرين إلا الطاعة والامتثال لكلّ ما يقوم به وإلا… لكن، ماذا عن اليوم الثاني؟! كيف سينفذ الاتفاق “التاريخي” في ظلّ المراوغة والتسويف والالتفاف الإسرائيلي المعهود على الاتفاقيات، وفي ظلّ شكوك عربية بالتنفيذ، ومع دعم وتأييد أميركي دون حدود لكلّ ما ستفعله “إسرائيل” مستقبلاً؟!
يمكن القول الآن، إنّ القضية الفلسطينية، والدولة الفلسطينية المستقلة، خرجت نهائياً من القاموس الأميركي، وكلياً من القاموس “الإسرائيلي”، وحُذفت من قاموس العرب، وذلك كله يجري أمامهم وبموافقتهم، وتصفيقهم، ومباركتهم لخطة يعرفون جيداً ومسبقاً مضامينها الفعلية، وآفاقها، وفِخاخها، وتداعياتها على المنطقة وشعوبها، ومستقبلها، ووحدتها ومصيرها!
في أوائل عام 2021، قال وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، إنّ واحدة من النجاحات الكبرى لإدارة ترامب السابقة، كانت فصل القضية الفلسطينية عن باقي القضايا، حتى لا تحجب تقدّم الحلول الأخرى، وانه تمّ تحالف فعلياً أو محتمل بين الدول السنية المجاورة لـ “إسرائيل” ضدّ النفوذ الإيراني الشيعي، والذي وصفه كيسنجر بالمفهوم الرائع (Brilliant concept).
في شرم الشيخ سيسجل التاريخ يوماً: أنّ خطة ترامب دفنت نهائياً الدولة الفلسطينية، لتترك الشعب الفلسطيني وحده، يتخبّط ما بين مؤيد ومعارض، والجميع يبحث عن الدولة التي أرادها لهم ترامب ونتنياهو ومعهما العرب سراباً ووهماً وخيالاً…