شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : تمثال حمدي قنديل يصفع المدّعين

اليوم نكشف الستار، في ذكراه السابعة، عن تمثال الإعلامي الكبير حمدي قنديل في معرض الشخصيات بمتحف وجوه لا تغيب داخل المركز الثقافي المصري بالشرق.
نحتفل لا بحجرٍ صامت، بل بضميرٍ كان يمشي بيننا.
تمثالٌ من الصدق لا من البرونز، من النور لا من الضوء الصناعي، لرجلٍ لم يبدّل وجهه حين تبدّل الوجوه، ولم يُغيّر ملامحه حين تبدّل الملامح مثل ما تتبدل الملابس والاطلاع والمصالح.
يقف قنديل بيننا شامخًا كرمزٍ لزمنٍ كان فيه الإعلام ضميرًا حيًّا، لا مهنةً أو وسيلة للكسب والشهرة.
كأنه بقيمه وقيمته يوجه صفعة على وجوه لا تعرف الوجل ممن يلبسون ويخلعون القناع بلا خجل.
صفعة حمدي على قناديل الصدأ التي لم تُنر يومًا رغم كثرة الزيت، لأنها فقدت زيت الشرف، فخبت قبل أن تشتعل يوما.

وجه حمدي قنديل في متحفنا يشبه الصدق حين يتجسّد، والنبل حين يتخذ ملامح إنسان.
إنه وجهٌ تعرفه مصر من ذاكرتها، قبل أن تتعرّف عليه في الحجر، لأن حضوره سابق على التمثال، وذكراه أسبق من النحت.
حين تتأمل ملامحه، في صوره التمثال المرفقة تراها ترسم تاريخًا من الصدق والمواقف، فكل تجعيدةٍ على جبينه تحكي قصة صمود، وكل نظرةٍ من عينيه تقول:
“الإعلام ليس ضجيجًا، وادعاء بل ضميرٌ يهمس بالحقيقة.”

عرفته في مطلع التسعينات، قبل أن تجمعنا ميادين السياسة والنضال.
كان اللقاء الأول في برنامجه الشهير قلم رصاص، حيث كان يكتب بالضوء على جدار العتمة.
لم يكن صوته عاليًا، ولم يقل يومًا كلمةً نابية، لم يدّعِ بطولة لكنه كان صادقًا كحدّ السيف.
قلمه لم يُطلق الرصاص، لكنه أصاب قلوب الزيف، وترك في الصدور أثرًا لا يُمحى.
كان يكتب الحقيقة كما تُكتب الأشجار: جذورٌ في الأرض، وأغصانٌ في السماء.
لم يتلوّن، ولم يبع قلمه في سوق الضجيج والنخاسة.
كان حبره طاهرًا من شوائب الطمع، وكان يؤمن أن الإعلامي الحقيقي لا يُصفّق له أحد، بل يُضيء الطريق لمن يسيرون في الظلام.

وحين جمعتنا الجمعية الوطنية للتغيير، رأيت فيه وجه الوطن لا مجرد وجه معروف.
كان صوته حين يتحدث عن مصر يشبه صوت النيل وهو يفيض، هادئًا في مظهره، جارفًا في مضمونه.
لم يكن يتلعثم حين يتحدث عن الحق، ولم يتراجع حين تُنصَب مشانق الكلام.
في ميدان التحرير، رأيته كما عهدته دائمًا: هادئًا كنيلٍ قديم، وثائرًا كفجرٍ يُكسر صمت الليل.
لم يكن يبحث عن الكاميرا، والمال والشهرة بل عن الحقيقة.
لم يكن إعلاميًا يُريد التصفيق، بل شاهدًا يُريد أن يُنقذ وطنًا من ألسنة الزيف.

لن أنسى وقوفه إلى جواري في فترات اعتقالي وفي انتخابات الرئاسة عام 2005، حين واجهتُ منظومةً ظالمة كانت ترى الوطن مزرعةً والمواطنين قطعانًا.


وقف حمدي إلى جواري متحديًا بعض أصحاب الهوى والغرض.
كان يقول: “أيمن نور دفع ويدفع الثمن من دمه وحياته وحريته وأنتم تقبضون ثمنًا لما لم تفعله.”
هكذا يقف الشريف مع من يشاركه الحلم، دون طموح في مكسبٍ أو خشية من خسارة.
فكان يعلم أن الخسارة أمام الباطل شرفٌ لا يُقاس بالأرقام، وأن غياب الإنصاف في لحظات الأزمة تجارة رخيصة وخيانة للوطن والضمير.

ويوم رحل أبي، حضر حمدي قنديل رغم المراقبة، رغم العيون التي تكتب الأسماء في دفاتر الخوف.
حضر لأنه لا يعرف نصف الوفاء، ولا يؤمن بنصف المواقف.
كان حضوره يومها عزاءً بحجم وطنٍ، ودرسًا في الوفاء والصدق لا يُنسى.
لم يكن حمدي قنديل ممثلًا لدور الوطني، بل كان الوطن نفسه حين ينطق.
لم يلبس البطولة كوشاحٍ للظهور، بل كانت البطولة تسكنه.
لم يركض وراء الضوء، والمال بل كان الضوء يركض إليه.

كان يعرف أن الحقيقة لا تُزيَّن بالادعاءات والافتراءات والمؤامرات الظنية بالمؤثرات الدرامية المكذوبة، بل تُقال من القلب فيسمعها القلب.
وُلد في زمنٍ كانت فيه الكلمة تُكتب بالمسؤولية لا بالرتوش.
بدأ رحلته من صفحات مجلة آخر ساعة، ثم انتقل إلى شاشة التلفزيون المصري، وبرامجه الأولى أقوال الصحف ورئيس التحرير.
صنع جيلًا يرى قبل أن يُصدّق، ويسمع قبل أن يصفّق، وأثبت أن الإعلام رسالة لا تجارة.
علّم جمهوره أن الصحفي لا يبيع الخبر، بل يزرعه.
أن الإعلامي لا يُبيع الوهم، ولا يسوّق لنفسه بل يُحاسبها ويقوم أمراضها أولًا بأول.

كان حواره مع الملوك والرؤساء مثل حواره مع الطلبة، نظيفًا، متوازنًا، صادقًا.
لم يخشَ أحدًا، ولم يطلب عونًا ماليًا من أحد، لأن الكلمة عنده كانت وطنًا يُقيم فيه ويكفيه.
رغم الشهرة والعواصم والضوء، بقي طبيعيًا سويًا قريبًا من الناس، بلهجته المصرية الصافية.
لم يتغيّر حين تغيّر المكان، ولم يتخلّ عن روحه حين تبدّلت الشاشات.
ظلّ مصريًا حتى العظم، عربيًا حتى آخر نبضة.
رفض أن يكون نجمًا، وأصرّ أن يكون إنسانًا.

حين انخرط في الثورة، حمل القلم في يد، والحلم في الأخرى.
آمن أن الإعلام مرآةً للحدث، وليس صانعه.
كان صوته في الميدان مثل نشيدٍ يعرفه كل من أحبّ مصر، يهتف بلا ميكروفون:
“الحق أقوى من الطغيان.”
ذاق مرارة التضييق والغربة، ولم يتاجر بما تعرض له، في وقت غادر مصر كما يغادر طائرٌ جريحٌ عشه، لكنه ظلّ يحمل ترابها في جناحيه.
لم يبدّل ضميره، كان يعرف أن الغربة لا تُقصي من الوطن من سكن الوطن في قلبه.

زواجه من الفنانة الكبيرة نجلاء فتحي كان أجمل فصول حياته الإنسانية.
كانت رفيقة الدرب والضوء في العتمة، تمسح عن جبينه التعب وتبتسم له كما تبتسم الأنهار للمطر.
ظلّت إلى جواره في مرضه، في نضاله، تقول له بعينيها:
“كل تعبٍ معك جميل.”
كنت أتمنى أن أدعوها لحضور إزاحة الستار عن تمثال حبيبها، لكني أدرك حجم الحرج الذي يحيط بمثل هذه الدعوة.
ومع ذلك، فهي بيننا بقلبها، بفنها، برقتها، بأصولها الطيبة.
وجودها في الوجدان لا يحتاج إلى كرسي في الصف الأول، لأن مكانها محفوظ في ذاكرة الحب والوفاء.

اليوم، ونحن نكشف الستار عن تمثاله، لا نضع أمامنا قطعة برونزٍ جامدة، بل مرآةً من ضميرٍ حيّ.
تمثالٌ لرجلٍ لم يُغيّر كلمته، ولم يُساوم أحد، ولم يترك الميكروفون إلا ليسلّمه للحقيقة.
لو وُضع حمدي قنديل في كفّة، ووُضع كل من يتشبهون به في كفّة أخرى، لمالت كفّته دون أن يتكلم، لأن الحقيقة أثقل من الذهب، ولأن الضمير لا يحتاج إلى إعلانٍ كي يضيء.

أشتاق إلى حمدي قنديل، إلى كل “حمدي قنديل” لم يخن من كان معه أو ضده، ولم يبدّل صوته، ولم يخرس قلمه.
أشتاق إلى زمنٍ كان فيه الإعلام مرآةً للناس لا مرآةً للهوى.
التمثال الذي يقف اليوم في متحف وجوه لا تغيب ليس فنًا صامتًا، بل شهادة ناطقة.
شاهد وفاءٍ من الأوفياء للأوفياء، من الإعلام الحرّ للإعلام الشريف.
تمثالٌ لا يشبه الحجر، بل يشبه النور حين يتجسّد في وجه رجلٍ قال الحقيقة ولم يهرب لعالم الزيف.

سيبقى حمدي قنديل تمثالًا في الذاكرة قبل أن يكون في المتحف.
سيبقى صوته في الأذن المصرية جرسًا يوقظ الضمير، وينبّه كل من يعتلي المنابر أن الكلمة ليست مهنة، بل عهد.
وفي كل مرةٍ أنظر إلى صوره التي جمعتني به — في الميدان، وفي الثورة، وفي الأمل — أسمع صدى كلماته القديمة:
“لسنا خصومًا للوطن، بل شركاء في حلمه.”

رحم الله الأستاذ الكبير، الذي علّمنا أن الخلاف في الرأي لا يُفسد النبل، وأنه حين اختلف مع الكبير محمد البرادعي قبل الثورة، ظلّ الخلاف شريفًا كصاحبهما، لأن كليهما كان يبحث عن وطنٍ لا عن مكسب شخصي.


رحم الله حمدي قنديل، ورحمنا من زمنٍ امتلأ بالنسخ المقلَّدة المغشوشة.
يا صديقي الذي لم تمت فيك الحقيقة، سلامٌ على حرفك الذي صار تمثالًا، وعلى صوتك الذي ما زال يدوّي في مسامعنا كلما خفتت الأصوات.
سلامٌ على وجهك الذي لا يزال يضيء الذاكرة كقمرٍ لم يُكمل دورته بعد.
نم قرير العين يا حمدي قنديل، فصوتك لم يرحل، وضوءك لم يخفت، وتمثالك ليس حجرًا بل قصيدةً في هيئة إنسانٍ من نور.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى