مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: أوراق ليبرالية أنا والحب (3-3)

أحبّ… إذن أنا حيّ

هل نحبّ لأننا أحياء؟ أم نحيا لأننا نحبّ؟

سؤال يلد نفسه كلّما اقتربتُ من المرآة، أو من فكرةٍ تُذكّرني أنّ ما يبقينا في هذا العالم ليس الرئة ولا العقل، بل ذلك الخيط الخفيّ الذي يربطنا بما نُحبّ.

الحبّ ليس رفاهية العاطفة، بل مقاومةٌ صامتة للموت، تمرّدٌ ناعمٌ على القسوة، إعلانٌ صغيرٌ بأنّ في القلب بقية ضوءٍ لم تُطفئها العصور.

هو النبض الذي يُذكّرني أنني ما زلتُ إنسانًا، رغم ما رأيتُ من لامبالاة، ورغم هذا العالم الذي يزداد تيبّسًا كأنّه فقد الإحساس.

كلّ ما نفعله في الحياة هو بحثٌ عن شكلٍ من أشكال الحبّ: حبّ الحقيقة، حبّ الوطن، حبّ الحريّة، حبّ الله…

والذين يتوهّمون أنّ الحبّ ضعفٌ لم يفهموا بعد أنّه طاقةُ الخلق الأولى، وأنّ الكون لم يبدأ بأمرٍ ولا بصرخة، بل بنبضة حبٍّ قال الله فيها: «كن».

أحبّ لأنّ الحبّ هو الإيمان الوحيد الذي لا يحتاج إلى وسيط.

هو الدِّين الذي لا يُكفّر أحدًا، والثورة التي لا تُريق دمًا، والحكم الذي لا يُعاقب أحدًا على اختلافه.

في الحبّ كما في الليبرالية، الحقيقة واحدة: أن تُقدّس حرّية الآخر كما تُقدّس قلبك.

أن تحبّ المختلف لا لأنّه يُشبهك، بل لأنّه يُكملك.

أن تدرك أنّ التنوع ليس خطرًا على الوجود، بل شرطًا له.

فكلّ حبٍّ يُصادر حرية المحبوب، هو استعمارٌ للعاطفة، وكلّ حريةٍ لا تعرف الحبّ، هي فراغٌ بارد لا يُنبت حياة.

في زحمة هذا العالم الذي يزرع الكراهية في المدارس، ويعلّم الأطفال كيف يخافون لا كيف يحبّون، أكتب هذه الورقة لأقول: إنّ الحبّ آخر ما تبقّى من الإنسان فينا.

من لا يُحبّ لا يعرف الله، ومن لا يعرف الله لا يعرف نفسه، ومن لا يعرف نفسه لا يعرف الطريق.

أحبّ… لأنّ الحبّ يجعلني أرى الأشياء بعيونٍ أرحب، ويمنحني شجاعة أن أُسامح نفسي والآخرين، وأن أبدأ كلّ يومٍ كما لو أنّ العالم خُلق للتوّ.

الحبّ لا يُنقذنا من الألم، لكنه يُعطيه معنى.

لا يُطفئ وجعنا، لكنه يُعيدنا إلى إنسانيتنا.

حين يُصبح الحبّ فلسفة حياة، لا عاطفة طارئة، يتحوّل الإنسان إلى وطنٍ صغيرٍ يسكنه السلام. وحين نفهم أنّ الحرية لا تُفهم إلا عبر القلب، ندرك أن كل إصلاحٍ يبدأ من الداخل لا من القانون.

أحبّ… إذن أنا حيّ.

ولأنّي حيّ، لا أكره، ولا أظلم، ولا أستبدّ.

أحبّ لأنّ في الحبّ خلاصًا من كلّ أشكال الموت — موت الضمير، وموت الشجاعة، وموت الأمل.

سيبقى الحبّ، رغم كلّ ما في العالم من وجعٍ وزيف، هو آخر ما يُقاوم فينا السقوط، وأول ما يُذكّرنا أنّ الله حين نفخ فينا من روحه، كان يمنحنا القدرة على أن نُحبّ… لكي نكون أحياء بحقّ

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى