مقالات وآراء

د.محمد عماد صابر يكتب: ستبقى المقاومة ما بقي الاحتلال

إنها قاعدةٌ في تاريخ أممٍ وصيرورة الأمم: لا يصْحُ وجودُ احتلالٍ غاصبٍ دون مقاومةٍ تُعطى له شرعية البقاء، ولا تُكسرُ إرادةُ شعبٍ مدافعٍ عن أرضه وكرامته بالقوة أو بتبادل الصفقات. بين الاستبداد والوقائع المفروضة من جهة، وبين حق الأمة وواجبها في التحرر من جهةٍ أخرى، يقف قانون التاريخ حازماً: مقاومةُ أصحاب الأرض مستمرةٌ ما بقي الاحتلال وجذوره متغلغلة.


في مشهدٍ دوليٍّ يصرّم أذنَ المنطق ويرقُصُ حول مآسي الأبرياء، وقف بعضُ المتنفّذين ليذكّروا العالم بأنهم قادرون على ترتيب «اليوم التالي»— ولكنهم ينسون أو يتعمّدون تجاهلَ ثمن ذلك اليوم. من ينظر إلى الحقائق يرى أن مواجهة الاحتلال ليست نزوةً مؤقتة ولا خطأً عابرًا، بل هي فعل وجوديٌّ لشعبٍ يبحث عن بقاياه والأمل في الحياة والكرامة. ومن هنا تفرض المقاومة وقائعها التاريخية والسياسية: لا استسلام إلا بعد عدالةٍ حقيقية، ولا تسويةٌ دائمةٌ بلا محاسبةٍ ومساءلةٍ للمجرمين.

في الشرعية: لماذا المقاومة حقّ شرعيّ وقانونيّ؟


1- الحقّ في الدفاع عن النفس والأرض: كل الشرائع السماوية والقوانين الدولية تعترف للشعوب المُحتَلة بحقها في الدفاع عن نفسها وبالوسائل التي تحقق ذلك في حدود ما يفرضه الضمير والأخلاق العامة. المقاومة هنا ليست مطلبًا انتقاميًا بقدر ما هي فعل حماية وجوديّ.

2- وجوب إنصاف الضحية ومحاسبة الجاني: العدالة جزء لا يتجزأ من الشريعة؛ وكل دعوةٍ لوقف المقاومة قبل إقامة محاكمات عادلةٍ ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية— ممن يظهر أن لهم أدوارًا مباشرة في صنع قرار العدوان— ستكون دعوةً لطمس العدالة وتشجيع الإفلات من العقاب.

3- التحريم الشرعي للتطبيع مع الجاني دون حقوق: أي تسويةٍ أو تطبيعٍ دوليٍّ أو إقليميٍّ لا يَلِحُّ على تحقيق الحقوق الثابتة للناس—العودة، الحرية، والعدالة— ستكون في عداد المتناقضات الشرعية والأخلاقية.

في السياسة والاستراتيجية: ماذا تعني «اليوم التالي» للمقاومة وللمبادِرين؟


1- لا ينقضي عمل المقاومة بمجرد هدنة: الهدنة أو وقف النار قد يكونان لحظةً تكتيكية لإعادة بناء القدرة الميدانية واللوجستية، ولتحشيد الدعم الشعبي والدبلوماسي. من يظنّ أن انتهاء العمليات المسلحة يعني نهاية الرغبة في التحرر، يخطئ خطأ فادحًا في فهم جذور الصراع.

2- المطلوب: فصل بين التهدئة والاعتراف بشرعية الاحتلال: الوسطاء وأطرافُ الضغط مطالبون بترتيب عملية سياسية رسمية تُعرِّف بشروط وقف العدوان وإطارًا لمحاسبة القتلة، لا أن يجعلوا وقف النار ممهدًا لإعادة إنتاج الاحتلال بصورة أكثر تهيؤًا. يجب أن تكون أي تسوية مرتبطة بإجراءات ملموسة لإزالة عناصر التطرف من الحكم في الكيان المحتل ومساءلة القادة المتورطين.

3- التحرك الدولي والحقوقي: المقاومة والوسطاء العرب والأتراك وغيرهم لهم الحقّ— بل الواجب الأخلاقي والسياسي— في المطالبة بإخراج قادة الجرائم من الساحة السياسية ومساءلتهم دوليًا. أمن الجيران والشعوب لا يُؤمَّن بوجود مجرمي حرب فوق أرصفة السلطة.

في التكتيك العملي: إطار عملٍ مقترح للمقاومة والوسطاء.


1- المطالبة بحماية مدنية حقيقية: خلال أي هدنة يجب أن تتضمن الاتفاقات آليات دولية محايدة لحماية المدنيين، وإشرافًا دوليًا على إيصال المساعدات، وممرات إنسانية خاضعة للمساءلة.

2- ربط أي وقفٍ دائمٍ بشروط واضحة: وقف دائم لا ينبغي أن يُوقَّع إلا بشرطين متلازمين: (أ) جدول زمني لإعادة الإعمار تحت إشراف دولي ومحلي لضمان عدم تهجير دائم، و(ب) آليات محاسبة قضائية دولية للمتورطين في جرائم جسيمة.

3- توحيد الموقف الفلسطيني والعربي: الوحدة السياسية والاتفاق على خطوط حمراء تفاوضية (ثوابت القضية: حق العودة، إنهاء الاحتلال، محاسبة المجرمين) هي حجر الزاوية لأي فاعلية أمام الضغوط الدولية.

4- استثمار القوة الرمزية والميدانية: المقاومة ليست فقط سلاحًا ميدانيًا، بل قوة سردية ودعوية وسياسية؛ على الفاعلين استثمار النصر الرمزي في تعزيز التحشيد الدولي وفضح محاولات إعادة الشرعنة للاحتلال.

5- بناء قدرات مدنية مؤسساتية: موازاة المقاومة العسكرية، يجب بناء مؤسسات مدنية قوية تُدير الاستجابة الإنسانية، تُوثّق الانتهاكات، وتعدّ ملفاتًا قانونية وسياسية متكاملة للمحاكم الدولية والآليات الحقوقية.

6- في البعد الأخلاقي والإنساني


لا يمكن أن تُقدَّم المصالح السياسية على كرامة الضحايا وحياتهم. كما أن المقاومة، لكي تحظى بشرعية أخلاقية دائمة، عليها أن تلتزم بالضوابط الإنسانية والأخلاقية في القتال، وأن تجعل حماية المدنيين أولوية لا مساومة عليها. التاريخ لا يرحم من يضعّف من داخله بإساءةٍ إلى المعتدى عليه أو بالتضحية بمصالح الناس تحت ذرائع خاطئة.

ختامًا: قانون التاريخ لا يرحم المبيدين.


لا تملك وسائل الإعلام وسيركات المجلس الدولي أن تغيّر حقيقة أن وجود احتلال يستدعي مقاومة. ومن يحاول اليوم أن يرسّم “اليوم التالي” بلا محاسبةٍ ولا ضماناتٍ لحقوق الشعب الفلسطيني، هو شريكٌ في جريمة طمس العدالة. المقاومة ستبقى وهجًا طالما بقي الاحتلال، والمطلوب من الفاعلين: توحيد الصف، تشديد المطالب الشرعية والقانونية، واستثمار كل وسيلة لإحكام إطارٍ دوليٍ يضمن الحقوق ويمنع إفلات الجناة من العقاب. فقط حينئذٍ يمكن التفكير في انتقالٍ حقيقيٍّ من حالة مقاومةٍ مفتوحةٍ إلى عملية سياسية تحقق الأمن والكرامة للجميع— وليس قبل ذلك.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى