فلسطينملفات وتقارير

عامٌ على الرحيل… الذكرى الأولى لاستشهاد يحيى السنوار (المؤسس – الأسير – القائد – الشهيد)

من النشأة إلى الاستشهاد (1962 – 2024)

وُلد يحيى إبراهيم حسن السنوار يوم 29 أكتوبر 1962 في مخيم خان يونس جنوب قطاع غزة، لعائلة فلسطينية لاجئة هجِّرت من بلدة المجدل – عسقلان بعد نكبة عام 1948.
نشأ في بيئة فقيرة داخل بيتٍ من الزينكو، بلا كهرباء ولا ماء دائم، وسط مخيمٍ مكتظٍ باللاجئين الذين يعيشون على الأمل والكرامة.
كان والده يعمل في سوق الخضار، رجلًا بسيطًا كريم النفس، ووالدته امرأة مؤمنة صابرة زرعت في قلبه الإيمان والعزيمة.
منذ طفولته أظهر نبوغًا دراسيًا واضحًا، فكان من الأوائل في مدارس وكالة الأونروا، محبًا للقراءة وحفظ القرآن.
كبر بين أزقة المخيم على أصوات المؤذنين وصيحات الأطفال الحالمين بالعودة، فكان يحمل في قلبه حلمًا مبكرًا بالتحرير.

التعليم الجامعي وبداية الاتجاه الإسلامي (1980 – 1984)

في عام 1980 التحق بالجامعة الإسلامية في غزة، كلية الآداب – قسم اللغة العربية.
هناك، وجد في قاعات الجامعة فضاءً للفكر والعمل العام، فانضم إلى الكتلة الإسلامية، الذراع الطلابي للإخوان المسلمين.
برز كخطيب مؤثر، جريء، حاضر البديهة، يقود المظاهرات الطلابية وينظّم الأنشطة الدعوية، مدفوعًا بفكره الإسلامي العميق وحبه للوطن.
في تلك السنوات توطدت علاقته بالشيخ أحمد ياسين الذي كان يزور الجامعة بانتظام، فكان السنوار من أوائل من التفوا حوله وساهموا في نشر فكر الحركة الإسلامية في غزة.
تخرج عام 1984 حاملاً شهادة اللغة العربية، لكن ما تعلمه في الجامعة لم يكن مجرد علمٍ أكاديمي، بل روحًا دعوية ومشروعًا تحرريًا، سيكرّس حياته له فيما بعد.

تأسيس جهاز “مجد” الأمني (1985 – 1988)

عام 1985 بدأ السنوار مرحلة جديدة في حياته التنظيمية.
أسس جهازًا أمنيًا داخل الحركة الوليدة عُرف باسم “مجد”، أي “الأمن والدعوة”، وكان هدفه حماية البنية الداخلية للإخوان المسلمين ومنع اختراقها من أجهزة الاحتلال.
قاد بنفسه التحقيق في ملفات حساسة تتعلق بالعملاء، ونجح في تفكيك شبكات تجسس زرعتها إسرائيل في صفوف الفلسطينيين.
كان يعمل بصمت وسرية تامة، حتى لُقّب في تلك الفترة بـ “رجل الظل” داخل التنظيم.
تميز بالصرامة والانضباط، وكان يردد دائمًا:

“الأمن ليس سيفًا نرفعه على الناس، بل جدارًا نحمي به الدعوة والمقاومة.”

وفي 1987 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، فاندمج جهازه الأمني في الجهد الشعبي العام، وأصبحت تلك المرحلة بداية التحول العلني لحركة حماس التي أُعلنت رسميًا في ديسمبر من ذلك العام.

الاعتقال والسجن الطويل (1988 – 2011)

في فبراير 1988، داهمت قوات الاحتلال منزل عائلته واعتقلته بعد ملاحقة مطوّلة.
في يونيو 1989، حكمت عليه المحكمة العسكرية الإسرائيلية بأربع مؤبدات و30 عامًا إضافية بتهم تنفيذ عمليات ضد متعاونين والتخطيط لأعمال مسلحة ضد قوات الاحتلال.
قضى في السجن أكثر من 22 عامًا متواصلة، تنقل خلالها بين سجون نفحة، عسقلان، بئر السبع، وهداريم.

في الأسر، تحوّل إلى رمز للصلابة والصبر.
تعلم اللغة العبرية بطلاقة ليعرف كيف يفكر خصومه، وقرأ مئات الكتب في الفكر والسياسة وعلم النفس وإدارة التنظيمات.
أسس داخل السجون لجانًا تنظيمية لتسيير شؤون الأسرى من حماس، وقاد إضرابات جماعية عن الطعام.
كان محط احترام الأسرى من كل الفصائل، لأنه جمع بين الحزم والعقل والهيبة.
تعرض للعزل الانفرادي أكثر من مرة، إحداها استمرت ستة أشهر كاملة.
ورغم ذلك كان دائم القول لرفاقه:

“الزنزانة لا تُسجن الروح، ومن يملك الإيمان لا يُهزم.”

تحول السجن بالنسبة له إلى مدرسةٍ كبرى في التخطيط، وأصبح من هناك “العقل الاستراتيجي” الذي ينتظر الجميع خروجه.

صفقة وفاء الأحرار والإفراج (2011)

في 18 أكتوبر 2011، وبعد مفاوضات طويلة، أُفرج عن يحيى السنوار ضمن صفقة تبادل الأسرى “وفاء الأحرار” التي أُطلق بموجبها الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط مقابل 1027 أسيرًا فلسطينيًا.
كان من بين أوائل الأسماء التي أصرّت إسرائيل على استبعادها، لكن إصرار حماس فرض وجوده ضمن الصفقة.
خرج من السجن بعد 22 عامًا بملامح هادئة وعينين صلبتين.
استقبله الفلسطينيون في ميدان الكتيبة بغزة استقبال الأبطال، وألقى خطابًا مؤثرًا قال فيه:

“لقد خرجنا لنكمل الطريق، ولن نغادر الميدان حتى نرى فلسطين حرة.”

عاد فورًا للعمل التنظيمي، وعُيّن مستشارًا للشؤون الأمنية لكتائب القسام، وبدأ مع محمد الضيف ومروان عيسى مرحلة إعادة بناء الجهاز العسكري والاستخباري للحركة.

قيادة حماس في غزة (2017 – 2024)

في فبراير 2017، انتُخب يحيى السنوار قائدًا لحركة حماس في قطاع غزة خلفًا لإسماعيل هنية.
كان ذلك تتويجًا لرحلة طويلة من الجهاد والعمل التنظيمي.
منذ توليه المنصب، أعاد الانضباط الداخلي للحركة، وفرض مبدأ “القيادة بالقدوة”.
رفض الامتيازات، وعاش في منزل متواضع داخل خان يونس، لا يملك حرسًا كثيفًا، ولا يسافر إلا للضرورة القصوى.

خلال قيادته:

  • أعاد بناء البنية العسكرية لكتائب القسام.
  • دعم تطوير برنامج الطائرات المسيّرة والصواريخ بعيدة المدى.
  • أنشأ منظومة أنفاق استراتيجية دفاعية وهجومية.
  • نسّق العلاقات مع مصر بشكل مباشر لتخفيف الحصار دون التنازل عن الثوابت.
  • حافظ على استقلال قرار الحركة بعيدًا عن الاستقطاب الإقليمي بين قطر وتركيا وإيران.

في مايو 2021، قاد حماس في معركة “سيف القدس”، التي ربطت بين غزة والقدس في معادلة جديدة.
وبعد وقف إطلاق النار، قال عبارته الشهيرة:

“إذا قصفتم غزة، سنقصف تل أبيب من أول دقيقة.”

كان يوازن بين القوة والسياسة، ويرى أن “المفاوضات لا معنى لها بلا قوة تحميها”.

من عملية “طوفان الأقصى” إلى رئاسة المكتب السياسي (2023 – 2024)

في 7 أكتوبر 2023، وقعت عملية “طوفان الأقصى”، التي هزّت أركان الكيان الإسرائيلي.
ورغم اختفائه الإعلامي منذ ذلك اليوم، إلا أن كل الدلائل كانت تشير إلى أنه العقل المدبر والموجّه الأعلى للعملية.
أدار المعركة من الأنفاق، وظل في قلب غزة رافضًا مغادرتها رغم القصف المستمر.
كان يعلم أن بقاءه في الميدان سيرسل رسالة للعالم أن القائد الحقيقي لا يغادر جنوده.

بعد اغتيال إسماعيل هنية في 31 يوليو 2024 في طهران، اجتمع مجلس شورى حماس، وفي 6 أغسطس 2024 أعلن انتخاب يحيى السنوار رئيسًا للمكتب السياسي للحركة، ليصبح القائد العام لحماس سياسيًا وعسكريًا.
ذلك الانتقال التاريخي أكد أن الحركة اختارت “قائد الميدان” لقيادة السياسة، وهو ما أعاد إليها التماسك والتحدي في أصعب لحظاتها.

الاستشهاد (16 أكتوبر 2024)

في فجر 16 أكتوبر 2024، نفذت قوات إسرائيلية خاصة عملية واسعة في رفح بعد معلومات استخبارية عن وجوده.
دارت اشتباكات عنيفة استمرت ساعات، استخدمت فيها إسرائيل قنابل حرارية وغازات سامة.
قُتل السنوار مع شقيقه زكريا السنوار واثنين من مرافقيه.
في 18 أكتوبر 2024، أعلنت حماس رسميًا استشهاده، ووصفت الحدث بأنه “رحيل قائدٍ عاش حرًّا واستشهد مرفوع الرأس”.
عمّ الحزن فلسطين والعالم العربي، وأقيمت له جنازات رمزية في غزة، الضفة، لبنان، تركيا، وقطر.

شخصيته ونهجه الفكري

كان السنوار نموذجًا للقائد المؤمن الصامت.
صارمًا في الميدان، بسيطًا في حياته، قليل الظهور الإعلامي، عميق الفكر، يقرأ قبل أن يقرر، ويستشير قبل أن يحكم.
كان يرى أن المقاومة ليست خيارًا تكتيكيًا، بل واجب ديني ووطني وإنساني.
يؤمن أن القوة لا تُستخدم للانتقام، بل لفرض الكرامة.
كان يقول دومًا:

“التحرير لا يبدأ من الخطابات، بل من تحت الأرض.”

اعتبر السياسة وسيلة، والميدان جوهرًا، وكان يردد لقياداته:

“من لا يسمع هدير الطائرات فوق رأسه، لا يسمع وجع شعبه.”

إرثه في الوعي الفلسطيني والعربي

بعد استشهاده، تحوّل يحيى السنوار إلى رمزٍ خالد في الذاكرة الفلسطينية.
أصبح اسمه يُذكر إلى جانب أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وعماد عقل، كأحد أركان الجيل الذهبي للمقاومة.
يراه الفلسطينيون القائد الذي لم يغادر الميدان، ولم يساوم على المبادئ، ولم يُبدّل بوصلته رغم الضغوط الدولية.
ترك خلفه منظومة متماسكة من الرجال والمؤسسات، وأسس لمدرسة جديدة في الفكر المقاوم تقول:

“أن تكون قويًا لا يعني أن تهاجم، بل أن ترفض الانكسار.”

منهجه في القيادة والسيطرة

كان السنوار مدرسة في القيادة.
جمع بين الفكر والسلاح، وبين الانضباط والرحمة.
قاد الحركة بالعقل لا بالعصا، وبالقدوة لا بالأوامر.
أعاد بناء الجهاز العسكري والأمني ليصبح الأكثر انضباطًا في تاريخ المقاومة الفلسطينية.
أنشأ منظومة قيادة جماعية لا تنهار بغيابه، بل تزداد تماسكا.
كان يردد دائمًا:

“المؤسسة هي القائد الحقيقي، والرجال زائلون.”

قاده انضباطه إلى بناء منظومة متكاملة:

  • جناح سياسي يفاوض دون أن يفرّط.
  • جناح عسكري يقاتل دون أن يتهور.
  • جناح شعبي يُغذّي الميدان بالروح والدعم.

كان يعرف متى يتحدث، ومتى يصمت، ومتى يجعل الصمت نفسه رسالة.
ورغم بساطته، كان ذا حضور مهيب، يدخل الغرفة فيسود الهدوء، ويتكلم فتُصغى العقول.
كان يرى القيادة تكليفًا لا تشريفًا، وكان أقرب إلى جنده منه إلى السياسيين.
لم يملك قصرًا ولا ثروة، بل سلاحًا وإيمانًا واسمًا محفورًا في الوجدان.

الإرث القيادي والفكري

رحل السنوار، لكن مدرسته باقية.
مدرسة ترى أن المقاومة فكرٌ قبل أن تكون بندقية، وأن النصر لا يتحقق في المعارك فقط، بل في الثبات على المبدأ.
كان يرى أن الزمن لا يُقاس بالأعمار، بل بما يتركه الإنسان من أثر.
وقد ترك هو أثرًا لا يُمحى.
من المخيم خرج، ومن الزنزانة صعد، ومن الميدان رحل.
عاش نقيًا، ومات عظيمًا، وخلّف للأجيال طريقًا واضحًا:
أن الحرية لا تُمنح، بل تُنتزع.

سلامٌ على من عاش صامتًا، وقاد بحكمة، ورحل بكرامة.
سلامٌ على يحيى السنوار، القائد الذي لم يعرف الهزيمة، ولم يبدّل مواقفه.
سلامٌ على من جعل من السجن مدرسة، ومن الحصار رسالة، ومن الموت حياةً للأمة.
لقد رحل الجسد، لكن السنوار بقي فكرة، وبقي مدرسة، وبقي وعدًا بأن النصر يولد من رحم الصبر.

إهداء: إلى روح القائد الشهيد يحيى السنوار، الذي علّمنا أن الحرية لا تُهدى، بل تُصنع.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى