
منذ أن عرفت مصر فكرة “النيابة عن الأمة”، والبرلمان كان مرآةً للمجتمع، تعكسُ نقاءه حين يصفو، وتعري أمراضه حين يتلوث.
لم يكن مجرد قاعةٍ يجلس فيها المشرّعون، بل كان في لحظات كثيرة، ساحةً للضمير العام، ومختبرًا لتوازن السلطة والمجتمع. لكنّ هذه التجربة الطويلة، الممتدة منذ أكثر من قرن ونصف، وصلت اليوم إلى مفترقٍ جديد… مفترق لا يشبه أي ما مضى، إذ يقف برلمان 2026 على أطلال تجربةٍ عريقة، لا ليمثل ذروتها، بل ليجسّد انهيارها.
من البدايات إلى الصراع على التمثيل
بدأت ملامح الحياة البرلمانية المصرية مبكرًا في القرن التاسع عشر، حين أنشأ محمد علي “مجلس المشورة” عام 1824، في محاولةٍ لصياغة شكلٍ استشاريٍّ للحكم، تكررت محاولاته وتطورت لاحقًا مع مجلس شورى النواب الذي تأسس عام 1866 في عهد الخديوي إسماعيل، ليُعدّ أول تجربة نيابية حقيقية في الشرق الأوسط.
ثم جاءت ثورة 1919 لتفتح الباب الواسع أمام أول حياةٍ دستورية حقيقية في مصر الحديثة، تجسدت في دستور 1923، الذي أنشأ مجلس النواب والشيوخ، وأعطى للبرلمان سلطة التشريع والرقابة والمساءلة. كان ذلك البرلمان الأول في 1924 هو الأكثر إشراقًا في الذاكرة الوطنية، إذ حمل صوت الحركة الوطنية التي قادها سعد زغلول وحزب الوفد، وأثبت أن الشعب قادر على أن يُنتج مؤسساتٍ من رحم نضاله، لا من رحم السلطة.
لكنّ هذا الضوء لم يدم طويلًا، إذ حلّ الملك فؤاد البرلمان في العام نفسه بعد أزمة اغتيال السير لي ستاك، ودخلت مصر دوامة من الحلول المتكررة والدساتير المتبدّلة، إلى أن استقرت -نسبياً- على دستور 1930 الذي قلّص صلاحيات المجلس، فكان برلمان 1931 نموذجًا للمجالس الضعيفة التي تفتقر للتمثيل الحقيقي.
برلمان اليوم الأول والأخير
في مارس 1925 انعقد برلمان لم يعمّر سوى بضع ساعات، بعدما انتُخب برئاسة سعد زغلول، ثم حُلّ في اليوم ذاته بمرسوم ملكي، فدخل التاريخ كأقصر برلمان عمرًا في العالم. لم تكن المشكلة في ضآلة مدته، بل في رمزية ما جرى: السلطة التي لا تحتمل رقابة، والمجتمع الذي ما زال يُختبر في وعيه بحقوقه.
من ثورة يوليو إلى احتكار الصوت الواحد
بعد ثورة 1952، أُلغيت الأحزاب وحُلّ البرلمان، ليُستبدل بمجلس الأمة عام 1957 في ظلّ نظامٍ جديدٍ أعلن أنه “يمثل الشعب دون وسطاء”، فصادر الفكرة التعددية من جذورها. لم يكن هناك حزب حاكم آنذاك، بل “الاتحاد القومي” ثم “الاتحاد الاشتراكي العربي” في عهد جمال عبد الناصر — وهو كيانٌ تنظيمي واحد يضم الجميع قسرًا، لا عن قناعة، بل عن خوفٍ أو تبعيةٍ للسلطة.
ورغم الشعارات الثورية الكبرى، لم يكن البرلمان في تلك المرحلة إلا صدى لصوتٍ واحدٍ يعلو من القصر الجمهوري. لم يعرف المصريون آنذاك المعارضة المؤسسية، بل عرفوا الإجماع الإجباري، فكانت الحياة النيابية أقرب إلى المشهد المسرحي منها إلى التمثيل السياسي.
من السادات إلى مبارك… برلمانات النظام الواحد
مع بداية حكم أنور السادات، وظهور “الحزب الوطني الديمقراطي” في أواخر السبعينيات، تغيّر الشكل ولم يتغيّر الجوهر. اتُّخذت بعض الإجراءات الشكلية لتعدد الأحزاب، لكنها كانت تعددية محكومة بسقفٍ واحد، وبلعبةٍ واحدة، ونتائجٍ معدّة سلفًا.
في عهد مبارك، تعمّق هذا النمط حتى بلغ ذروته في انتخابات عام 2010، حين حصد الحزب الوطني أكثر من 95٪ من مقاعد البرلمان، في انتخابات وُصفت بأنها الأكثر تزويرًا في التاريخ الحديث. كان البرلمان آنذاك أداةً في يد النظام، لا سلطةً تشريعية مستقلة، لكن المفارقة أن معظم نوابه — رغم فوزهم بالتزوير — كانوا منخرطين في العمل العام أو التنظيمات الحزبية، ولهم خبرة سياسية أو مؤسسية؛ أي إن التزوير كان لمصلحة متنافسين داخل اللعبة، لا لمصلحة الغرباء عنها.
ثورة يناير… والبرلمان الذي لم يكتمل
بعد ثورة 2011، استعاد المصريون أملهم في برلمانٍ يمثلهم حقًا. جاءت انتخابات 2012 في أجواءٍ من الحماس، وشاركت فيها كل القوى السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فكان البرلمان الأكثر حيوية وتنوعًا منذ نصف قرن. لكنه لم يعش طويلًا؛ إذ حُلّ بقرارٍ قضائي بعد شهور قليلة، وعادت البلاد إلى المربع الأول: السلطة تبتلع السياسة، والمجتمع يتراجع أمام الدولة.
من برلمان الصوت الواحد إلى برلمان الصفقات
في السنوات التالية، دخلت مصر عصر البرلمانات الصامتة، التي تُدار من خلف الستار، ويُكتب جدول أعمالها خارج قاعاتها. لم تعد الانتخابات منافسة بين برامج أو أحزاب، بل تفاهمات بين مكاتب وأجهزة. وبدل أن تكون القوائم الانتخابية ساحةً لتعدد الرؤى، تحولت إلى قوائم مغلقة تُكتب بالأسماء كما تُكتب كشوف التعيين.
أما البرلمان المنتظر في 2026، فهو أخطر ما عرفته التجربة البرلمانية المصرية، لأنه لا يعاني من ضعف التمثيل أو شبهة التزوير فحسب، بل من غياب الفكرة نفسها. ليس برلمانًا ناقصًا في شرعيته، بل فاقدًا لمعناه.
برلمان 2026… حين يُشترى المقعد كما تُشترى الشهادة
لأول مرة في تاريخ الحياة النيابية المصرية — منذ مجلس شورى النواب في 1866 وحتى اليوم — تتحول عضوية البرلمان إلى سلعةٍ تُباع وتُشترى على الملأ. لم يعد المقعد النيابي نتيجة منافسة، ولا حتى نتيجة تزويرٍ لحساب منافسٍ سياسي؛ بل أصبح مكافأةً تُمنح لمن لم يشارك أصلًا، أو تُشترى لمن لا صلة له بالحياة العامة.
في هذا البرلمان، يُمنح المقعد كجائزة نهاية خدمة، أو عربون ولاء، أو تذكارٍ لشخصٍ غائبٍ تُكرّم أسرته لمجرد قربها من دوائر النفوذ. هكذا صار البرلمان يضمّ “أمهات مثاليات” و”أرامل مكلومات” و”رجال أعمال مترفين”، لا باعتبارهم ممثلين عن الشعب، بل رموزًا لعلاقاتٍ ومصالحَ تمتدّ إلى خلف الستار.
حتى البرلمانات المزورة القديمة كانت — برغم ظلمها — تضم رجالًا ونساءً خاضوا السياسة، وامتلكوا ثقافةً حزبية أو تجربةً عامة. أما اليوم، فنحن أمام مجلسٍ لا علاقة له بفكرة النيابة، ولا بالرقابة، ولا بالتشريع؛ مجلسٍ بلا جذور سياسية، ولا عقول تشريعية، ولا حتى ذاكرة وطنية.
الفرق بين برلمانٍ غير عادل وبرلمانٍ غير موجود
من الإنصاف أن نفرق بين ثلاثة أنواع من البرلمانات في تاريخنا النيابي:
برلمانات غير عادلة التمثيل، لكنها حافظت على قدرٍ من الجدية، كبرلمانات ما بين 1923 و1936.
وبرلمانات غير نزيهة في الاختيار، كبرلمانات مبارك، التي زُورت لكنها ضمت نوابًا محترفين يعرفون قواعد اللعبة السياسية.
ثم هذا النوع الثالث، الذي لا ينتمي لأيٍّ من سابقيه: برلمانات منعدمة الصلة بالتمثيل، لا تُفرزها صناديق، بل تكتبها دفاتر الصفقات، ولا يُختار فيها الأكفأ، بل الأغنى أو الأقرب.
إنه برلمان بلا شرعية سياسية، وبلا ضمير وطني، وبلا هوية. برلمان يعكس سقوط فكرة الدولة الحديثة نفسها، حين يصبح التشريع وظيفة شكلية في مسرحٍ تديره المصالح لا الإرادة الشعبية.
مصر تدخل 2026 بالبرلمان الأسوأ في تاريخها
لم تعرف مصر — عبر تاريخها النيابي الممتد 160 عامًا — برلمانًا كهذا.
حتى برلمانات الاحتلال البريطاني، وحتى برلمانات ما قبل الدستور، كانت تحوي نُخبًا فكرية، وشخصيات وطنية، وممثّلين للطبقات. أما اليوم، فالقوائم تُعدّ بالأوامر، والمقاعد تُشترى بالنفوذ، والصمت هو اللغة الرسمية تحت القبة.
ولذلك فإن برلمان 2026 لا يُوصف بأنه “الأسوأ في التمثيل”، بل “الأسوأ في المعنى”، لأنه لا يُمثل أحدًا، ولا يعبر عن شيء، سوى سقوط الفكرة النيابية في وحل المال السياسي، وانحدار الوعي العام إلى درجةٍ لم يبلغها في تاريخه كله.
من مجلس شورى النواب في 1866، إلى مجلس النواب في 2026، سارت الحياة البرلمانية المصرية رحلةً طويلة من التطلع إلى الحرية إلى الاستسلام للمصالح. وبين الحلم الأول والخيبة الأخيرة، يتجلى السؤال المؤلم:
هل يمكن لأمةٍ أن تنهض إذا صمت برلمانها، وإذا اشترى المالُ صوتها، وإذا فقدت التشريعات ضميرها؟
إن أخطر ما في برلمان 2026 أنه لا يزوّر إرادة الشعب فحسب، بل يُلغيها تمامًا.
هو ليس مرآةً مكسورة للوطن… بل جدارٌ يُخفي خلفه الوطن كله.