
رجلٌ عاش ثابتًا في زمنٍ يتقلّب
في حياتي السياسية والإنسانية، هناك رجالٌ يصعب أن تُختزل سيرتهم في كلمات، لأنهم لا يمرّون مرور العابرين، بل يتركون على الذاكرة أثرًا يشبه بصمة النور على جدارٍ قديم.
من هؤلاء العزيز الصديق، النائب الكبير، الأستاذ عبد المنعم التونسي — الذي جمع بين شجاعة الجيل الأول، ورصانة الموقف، ونقاء القلب.
كان نائبًا صلبًا في زمنٍ هشّ، برلمانيًّا في زمنٍ ندر فيه البرلمانيون، ورجلًا ظلّ ضميره أقوى من سلطته.
منذ السبعينيات حتى برلمان الثورة
بدأ مسيرته منذ سبعينيات القرن الماضي، حين كانت الكلمة تُحسب بنبض القلب لا بعدد الأصوات، وظلّ نائبًا عن الناس لا عن الحزب، عن الوطن لا عن الدائرة، حتى برلمان الثورة عام 2012.
جمعتني به سنوات طويلة تحت القبة، عشر سنوات متجاورة في صفوف المقاتلين، نضحك معًا على مرارة المشهد، ونتقاسم الهمّ والهمّة.
كان مقعده بجواري في البرلمان، وصوته إلى جوار قلبي في كل لحظة مواجهة، ورؤيته أقرب إلى الحكمة التي تُبنى على التجربة لا على النص.
عبد المنعم التونسي وحزب الغد
عرفته يوم قدّمنا أوراق حزب الغد، فكان في مقدمة المؤسسين، ثم صار رئيسًا للحزب في فترة اعتقالي، فحمل الاسم كما يُحمل اللواء: لا يسقط من يده، ولا يلتفت به إلى الوراء.
كان الأب الكبير الذي يُدير الخلاف بالحب، ويواجه العواصف بالابتسام، ويؤمن أن القيادة ليست سلطةً، بل مسؤولية أخلاقية.
موقف لا يُنسى
أذكر يوم حاولوا إحراق مقر الحزب.
اشتعلت النيران، وارتبك الناس، لكنه ظلّ واقفًا، يواجه اللهيب بنفس الهدوء الذي كان يواجه به أزمات البرلمان.
لم يغادر موقعه إلا بعد أن أطفأ النار بالكلمة قبل الماء، ثم قال لي مبتسمًا بعد خروجه من الاحتجاز:
“الحزب فكرة، والفكرة لا تُحرق.”
البرلمان الشعبي وردّ السخرية بالفعل
وحين أسسنا البرلمان الشعبي بعد تزوير انتخابات 2010، وجاءت سخرية الرئيس المخلوع بقوله: «خليهم يتسلّوا»، كان هو أول من تقدّم لرئاسته، وأدار جلسته الأولى بشجاعةٍ وهدوءٍ لا يقدر عليهما إلا الرجال الذين تمرّنوا على الحلم والصبر معًا.
لم يكن أحدٌ غيره قادرًا على أن يجعل من سخرية السلطة شرارةَ جدٍّ، ومن الاستهانة الرسمية لحظةَ وعيٍ وكرامة.
ضمير البرلمان وصوت الحكمة
في كل مرة كان يقف فيها ليخطب، كان البرلمان يستعيد وقاره القديم.
وفي كل مرة يصمت، كان صمته أبلغ من الخطب.
لم يُجامل يومًا على حساب المبدأ، ولم يُساوم على فكرة، ولم يتلوّن في موسم.
كان رجلًا من طينةٍ نادرة، لا تغيّره المناصب ولا تُغريه المنافع.
نائب عن الضمير لا عن الحزب
على مدى سنوات طويلة، ظلّ صوته في البرلمان أقرب إلى صوت ضمير مصر — حين يتكلّم عن العدالة، تشعر أنّك تستمع إلى حكيمٍ لا إلى سياسي،
وحين يتحدث عن الحرية، تشعر أنّك أمام معلمٍ لا أمام نائب.
كان نائبًا في السبعينيات، وزامل جيلاً من الآباء البرلمانيين، ثم زاملنا نحن في برلمان 2005 وبرلمان الثورة، كأنه جسرٌ من الأجيال، لا ينقطع ولا يتهدّم.
في كل مرحلة كان نفسه، لا يتغيّر إلا شعرُ رأسه الذي اختلط فيه بياض التجربة بسواد العزم.
مواقف لا تنسى وإنسان لا يتكرّر
وفي ساحات السياسة، لم يكن يومًا تابعًا، بل كان مؤثرًا،
رجلًا يُؤمن أن الحزب بيتٌ للناس، لا منصةٌ للحاكم، وأن الكلمة مسؤولية، لا وسيلة للتسلية.
وفي مواقفه الإنسانية، كان أوفى الأوفياء، يتعامل مع الجميع كأبٍ كبيرٍ يوزّع الحنوّ والهيبة معًا.
كان إذا غضب، صمت، وإذا رضي، ابتسم، وإذا واجه، واجه بشجاعةٍ تُشبه الفلاح المصري حين يقف في وجه الريح.
حكماء الحزب بعد الثورة
لا أنسى أنه حين تولّى رئاسة لجنة حكماء الحزب بعد الثورة، كان يقول دائمًا:
“الاختلاف لا يُفسد المروءة، والخلاف لا يُلغي الود.”
ولهذا ظلّ حضوره بركةً في الاجتماعات، وذاكرةً من الحِلم، وضميرًا من الوفاء.
خاتمة الوفاء
عبد المنعم التونسي… الرجل الذي ظلّ نائبًا عن الحق حتى خارج البرلمان،
الرجل الذي جعل من العمل العام رسالةً تتجاوز الكراسي،
ومن السياسة وجهًا نبيلاً للوطنية.
اليوم، وأنا أكتب عنه، لا أُحصي سنواته في النيابة بقدر ما أُحصي مواقفه،
ولا أعدّ إنجازاته بقدر ما أعدّ خُطاه في طريق الاستقامة.
هو واحدٌ من أولئك الذين يشهد التاريخ لهم لا عليهم، ويكتب أسماءهم على جدار الاحترام بحروفٍ من ثباتٍ ونور.
أطال الله في عمره، وجزاه عن مصر، وعن منفلوط، وعن حزب الغد وغد الثورة خير الجزاء.
ولعلّ الأجيال الجديدة إذا بحثت عن مثالٍ للنائب الوطني، فلا تبحث بعيدًا…
ففي سيرة عبد المنعم التونسي تختصر مصر ما كانت، وما يجب أن تكون.







