مقالات وآراء

مجدي حمدان يكتب: تأميم الحياة البرلمانية ومحو التاريخ النيابي الحقيقي

الانتخابات في أصلها ليست مجرد عملية تصويت أو تنافس على مقاعد نيابية، بل هي حق دستوري أصيل وواجب وطني يضمن للمواطن حقه في المشاركة في إدارة شؤون بلاده، وفقاً لما نصت عليه المادة (87) من الدستور التي أكدت أن “مشاركة المواطن في الحياة العامة واجب وطني، ولكل مواطن حق الانتخاب والترشح وإبداء الرأي…”.

ولأن الدستور لم يكتفِ بالتنظير، فقد جاءت القوانين المكملة لتُرسّخ هذا المبدأ، وعلى رأسها قانون تقسيم الدوائر الانتخابية الذي حدد الشكل الأمثل للعملية الانتخابية من خلال الجمع بين النظام الفردي والقوائم، تحقيقاً للتوازن بين التمثيل الشعبي والتمثيل الحزبي، وضماناً لتنوع الأصوات داخل البرلمان.

لكن ما نشهده اليوم لا يعبر عن هذا التوازن، ولا يعكس روح الدستور أو فلسفة القانون، بل نحن أمام تحوّل خطير من الحقوق الدستورية إلى الحقوق الفئوية، ومن إرادة الشعب إلى إرادة المجموعات المغلقة التي احتكرت المشهد وتجاوزت مفهوم المشاركة إلى منطق التوجيه والاصطفاف.

لقد تحولت العملية الانتخابية في بعض مراحلها إلى مسرح مُعدّ مسبقاً، تُدار فيه الأسماء كما تُدار الملفات، وتُوزع المقاعد كما تُوزع المناصب، تحت لافتات حزبية لا تمتّ في جوهرها للممارسة الحزبية الحقيقية بصلة.

فالقانون لم يمنح أي حزب أو تكتل الحق في احتكار الترشيح أو إغلاق الساحات أمام الراغبين في خوض المنافسة، لكنه منح الجميع الحق في الترشح الحر والتعبير المتكافئ.

غير أن ما نراه الآن هو تجاوز صريح لهذه القاعدة، إذ اتفقت مجموعة من الأحزاب على الشكل والأشخاص مسبقاً، في مشهد أقرب إلى المحاصصة منه إلى المنافسة، فغابت العدالة الانتخابية التي أرادها المشرّع، وبرز ما يمكن وصفه بـ الناخب الجوال، بديلاً عن “الورقة الدوّارة” القديمة، في إشارة إلى إعادة تدوير النفوذ بدلاً من تدوير الوعي.

والأخطر من ذلك أن بعض الأسماء التي فُرضت على القوائم لا تنتمي فعلياً إلى تلك الأحزاب، بل إن أحدهم – رغم مواقفه المناهضة للقضية الفلسطينية، وتشفّيه العلني في استشهاد القائد يحيى السنوار – جرى تسويقه ودفعه ضمن قوائم أحزاب وطنية الشكل فاقدة الجوهر، فقط لأنه جاء بتوصية من مجموعة رفضت الجهة السيادية ذاتها أن يكون محسوباً عليها، فتم تمريره عبر “الحيز المتاح”.

وهكذا لم يتوقف التشويه عند حدود الترشيح، بل امتد إلى بنية الحياة النيابية ذاتها.

فقد تعرضت المجالس البرلمانية لما يشبه التأميم؛ إذ تحولت القوائم الانتخابية إلى قوائم مغلقة لا ينافسها أحد، وتُعلن نتائجها بالتزكية لا بالتصويت، في مشهد يُلغي مبدأ المنافسة ويُجهز على فكرة الاختيار.

وبذلك انتقلنا من برلمان الإرادة الشعبية إلى برلمان التعيين الجماعي، ومن ساحة تنافس سياسي إلى ما يشبه مجالس الأندية أو العمارات التي تُدار بالتوافق الشكلي لا بالاقتراع الحقيقي.

إن احترام الدستور لا يعني فقط النص عليه، بل تجسيده في الممارسة. وإن الحفاظ على هيبة الدولة لا يكون بتجميل المشهد، بل بضمان أن كل صوت يجد طريقه إلى الصندوق دون وصاية أو توجيه.

لقد أراد الدستور برلماناً يعكس إرادة الناس، لا إرادة المكاتب المغلقة. وأراد قانون الانتخابات أن يكون وسيلة للتمثيل الشعبي، لا وسيلة للتنصيب المسبق.

فإذا لم نراجع أنفسنا، سنجد أننا استبدلنا “الورقة الدوّارة” القديمة بـ “الناخب الجوال” الحديث، واكتفينا بتغيير الشكل دون أن نمسّ جوهر العدل أو نحقق روح المشاركة.

وهكذا نكون أمام واقع مؤلم: تأميم الحياة البرلمانية ومحو التاريخ النيابي الحقيقي، بعد أن تحوّل الحق الدستوري إلى امتياز فئوي، والمنافسة الحرة إلى قرار مُسبق، والإرادة الشعبية إلى مجرد بند في محضر تفاهمات مغلقة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى