
إنسانيةٌ انتقائية وسلامٌ مزيّف، أيّ عالم هذا؟، أيّ نظامٍ دولي هذا الذي تهتزّ له الأرض وتُستنفَر الجيوش، وتُفتح المعابر، وتتحرّك الأقمار الصناعية لاستخراج جثامين 19 إسرائيليًا من تحت الركام، بينما يرقد تحت أنقاض غزة أكثر من عشرة آلاف شهيد فلسطيني لم تُحرّك من أجلهم جرافة واحدة؟
إنها إنسانية مقلوبة الموازين، وسلامٌ يُدار بمعايير القوة لا بمعايير العدالة، يُسمّى “سلام ترامب” و”ضمان الدول الضامنة”، وهو في الحقيقة تكريسٌ للظلم، وتجميلٌ للمجزرة، وتصفيةٌ باردةٌ لضمير البشرية.
إنه مشهد يكشف زيف الحضارة الغربية، لقد شاهد العالم بأسره، للمرة الألف، حقيقة ما يُسمّى بالقيم الإنسانية الغربية.
حين يكون القتيل إسرائيليًا، تُستنفر واشنطن ولندن وبرلين وباريس، وتُفتح ممرّات، وتُطلق بيانات عاجلة.
وحين تكون الضحية فلسطينيًا، يُقال: نبحث عن “وقفٍ مستدامٍ لإطلاق النار” وكأنّ الأجساد تحت الركام تفاصيل صغيرة في لعبة السياسة.
هذه الازدواجية ليست طارئة؛ إنها سياسة ممتدة منذ وعد بلفور، مرورًا بنكبة 1948، واحتلال 1967، وصولًا إلى حرب الإبادة في غزة عام 2023– 2025، حيث صار الدم الفلسطيني وقودًا لصفقات التطبيع ومؤتمرات “السلام” الزائفة.
هذا السلام الترامبي عنوانٌ لتصفية القضية، ما يُروّج له اليوم تحت مسمى “سلام ترامب” ليس اتفاقًا سياسيًا بل مشروع هيمنة كامل، جوهره حماية الكيان الصهيوني وإخضاع المنطقة العربية تحت وصاية أمريكية– إسرائيلية مشتركة.
الضمانات التي تتحدث عنها الدول المشاركة ليست للفلسطينيين، بل لأمن إسرائيل، أما الفلسطينيون فليس لهم من “الضمان” إلا الحصار والموت تحت الأنقاض.
إنه سلامٌ بلا عدالة، وأمنٌ بلا حرية، واستقرارٌ فوق جماجم الأطفال.
وما قمة شرم الشيخ الأخيرة إلا حلقة من حلقات تثبيت هذا الواقع الجديد، حيث تقف بعض الدول العربية في موقع “الضامن” لا لحقوق الفلسطينيين، بل لنجاح الصفقة الأمريكية.
“معادلة الأمن الزائفة”
يتذرّع الغرب بأن استعادة جثث الإسرائيليين واجبٌ إنساني، بينما يمنع وصول الوقود والمعدات إلى فرق الإنقاذ في غزة.
يتحدثون عن القانون الدولي، لكنهم نسوا أن القانون نفسه يجرّم الحصار، ويعتبر العقاب الجماعي جريمة حرب.
هكذا صارت “الإنسانية” أداة للانتقاء، تُستخدم حين تخدم مصالحهم، وتُطوى حين تفضح جرائمهم.
هذا عين السقوط الأخلاقي للنظام الدولي، حين تتواطأ الأمم المتحدة، ويصمت مجلس الأمن، ويتحدث العالم عن “المساعدات الإنسانية” بينما يواصل الاحتلال قصف المستشفيات والمدارس، فإننا أمام لحظة انهيارٍ أخلاقي للنظام الدولي.
الدم الفلسطيني أصبح رخيصًا لأنّ من يراقبه شريك في الجريمة.
والصمت العربي الرسمي أصبح غطاءً للقتل الممنهج باسم “الضمانات” و”الاستقرار”.
لكن؛ ماذا بعد كل هذا الزيف؟
“نحو مشروع مقاوم شامل”
إنّ هذه المفارقة المروّعة يجب ألا تُقرأ بعين الغضب فقط، بل بعين الوعي.
فما يحدث اليوم يفرض على الأمة الإسلامية والعربية بناء مشروعٍ مقاومٍ جديد، يتجاوز منطق ردّ الفعل إلى صناعة الفعل:
مقاومة سياسية توحّد الموقف وتفضح التواطؤ.
مقاومة إعلامية تكشف زيف الخطاب الإنساني الغربي.
مقاومة اقتصادية وشعبية تقاطع وتفضح وتدعم صمود غزة.
لقد آن للعالم الإسلامي أن يدرك أنّ “سلام ترامب” ليس إلا وجهًا جديدًا للحرب على الوعي، وأنّ “الدول الضامنة” تضمن أمن إسرائيل لا أمن الإنسان.
سيداتى سادتى:
من تحت الركام تُولد الحقيقة، من تحت الركام لا تخرج الجثامين فقط، بل تخرج الحقيقة أيضًا.
الحقيقة التي تقول إنّ هذا العالم يعيش بعينٍ واحدةٍ ترى الإسرائيلي إنسانًا والفلسطيني رقمًا.
لكنّ التاريخ لا يُكتب بعيون الأقوياء فقط، بل بدماء الشهداء الذين يزرعون في الأرض بذور الحرية القادمة. “وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلبٍ ينقلبون.” (الشعراء: 227)