د.أيمن نور يكتب: حكاية صورة.. المخبر الذي قتلتُه ونقلتُه للمستشفى فاختفى

يسألني البعض، بصدقٍ أو بدهاءٍ أو بعجزٍ عن الفهم:
هل أنتَ متسامح حقًّا؟ أم تتظاهر بالتسامح لأنك فقدتَ القدرة على الغضب؟ يسألني بعض الأحبّة بحرصٍ وودٍّ وخوفٍ ورهبة: لو جاء إليك فلان وطلب أن تسامحه، هل يمكن أن تسامحه؟ وتتجاوز عمّا فعله؟

ويسألني آخرون من المخلصين الغيورين:
لماذا لا تردّ على من يهاجمونك بشتائمٍ لا تليق بالشارع، فكيف تليق بالسياسة؟ ولماذا تصافح من خانك، وتبتسم وتذكر بلطف من أساء إليك؟
كلما سمعت هذه الأسئلة المتكرّرة، أردّ قائلاً: لا أعرف!أبتسم في داخلي، وأتذكّر صورةً قديمة، لم يسبق لي روايتها، أحتفظ بها كجُرحٍ مؤرّخ، لا كذكرى عابرة.
الصورة التي أعرضها اليوم لأوّل مرّة، أروي تفاصيلها التي يشهد عليها أحياء، لعلّها تُجيب عن تلك الأسئلة التي تحاصرني.
تلك الحكاية التي يعرفها القليلون — وربما لن يصدّقها غيرهم — بدأت في الخامس من ديسمبر البارد عام ٢٠١٠.
بدأت الحكاية بقرارٍ أمنيٍّ مؤسف، صدر منذ خروجي من الاعتقال عام ٢٠٠٩، إذ كنتُ أُراقَب كما يُراقَب المجرم، وأعيش كما يعيش المطلوب في وطنه، محاصرًا بالعيون والتنصّت والمراقبة الشخصية الوثيقة.
القرار كان أن يُراقَب أيمن نور أينما ذهب، كأنه يَحمل قنبلةً في جيبه، لا فكرةً في رأسه. ومع ذلك، لم أكره من يراقبني، بل كنتُ أبتسم لهم أحيانًا، وأَسخر منهم في أحيانٍ أخرى.
الإسكندرية، مسقط رأسي والبلد الأقرب إلى قلبي، التي كنتُ أقضي فيها عادةً نهاية الأسبوع، كانت من أكثر المحافظات التزامًا بتطبيق تعليمات المراقبة، حيث كان مقرّرًا لسيارتين أن تتابعاني لحظةً بلحظة، بأربعة ضبّاط. وفجأة قرّروا إضافة مخبرٍ يمتطي درّاجة بخارية ليكون خامسهم.
في ذلك اليوم، قرّرت أن آخذهم في رحلة مشي طويلة في شارع سوريا القريب من منزلي على شاطئ ستانلي بالإسكندرية، وسرتُ في الاتجاه المعاكس لحركة السيارات.
كنتُ يومها أبحث عن “تورتة” عيد ميلادي، لا عن مواجهةٍ مع أحد أو إيذاء أحد. لم أُرِد أن تُلتقط لي صورةٌ وأنا أحمل “تورتة” في بلدٍ لا يحتمل أن يراك فرِحًا.

لكن المخبر الجديد في المهمة انشغل بي أكثر مما انشغل بالطريق، فاصطدمت دراجته بسيارةٍ مسرعة، وطار في الهواء. رأيته يسقط أمامي، جسدًا بلا صوت، كأن الريح انتزعت منه الحياة.
في تلك اللحظة، لم أرَ “مخبرًا”… رأيتُ إنسانًا، حملته مع المارّة إلى المستشفى، والدماء تكتب فوق يديّ سطرًا جديدًا في كتاب الوجع.
قضيتُ تلك الليلة بين الممرات البيضاء، أُمسك بالرجاء كما يُمسك الغريق بخشبة. لم يكن لي خصمٌ سوى الموت، ولا هدفٌ إلا أن يبقى على قيد الحياة.
في اليوم التالي، عدتُ مع زملائي في الحزب — مؤمن رشاد، نجلاء فوزي، إبراهيم، وآخرين — نحمل باقة زهورٍ وبقايا أملٍ. استقبلتنا أمّه في الغرفة التي كانت تُنادي فيها على ابنها بصوتٍ مكسورٍ كالزجاج.
أما هو، فقد أُخرج من الغرفة، لا ليُشفى، بل ليُخفى.
جرّوه على نقالةٍ كأنهم يُهرّبون ذنوبَ أحدٍ لا يريدون أن يرونيه.
بحثتُ عنه في الردهات الطويلة، حتى أخبروني بصمتٍ أنه صار في “المشرحة”. تركتُ الورود في يد أمه… وخرجتُ. منذ ذلك اليوم، لم أشعر بشماته. فقد رأيتُ وجه “الخصم” حين سقط، كوجه إنسان.
رأيتُ دماءه تسيل على الأسفلت، فلم أعد أرى العدو في ثوب المخبر، بل في غياب العدالة.
تعلمتُ من حكاية هذه الصورة أن التسامح ليس ضعفًا، بل وعيًا عميقًا بأننا جميعًا ضحايا الخوف والقهر والظلم، وأن الكراهية لا تقتل خصومنا، بل تقتلنا نحن أولًا.
من يسألني: هل أنتَ متسامح؟
أقول له: لا أعرف…
لكنّي حملتُ من كان يُراقبني إلى المستشفى، لا إلى الجحيم.
وسلّمتُ لوالدته وردًا، لا سبًّا.
ربما هذا هو الفارق بين من يقتل بقرار، ومن يُنقذ بغريزة إنسان.
كلما أتذكّر هذا المخبر الذي لم أعد أحمل اسمه في ذاكرتي، لكن صورته لم تفارقني، أستعيدها أمام نفسي وأعتذر له ولأمه لأنني كنت سببًا في أن يفقد حياته وتفقد هي ابنها وسندها.

الزمن مرّ، والبلد تغيّر، لكنني ما زلت أؤمن أن الحرية لا تُبنى بالانتقام، ولا تُصان إلا بالرحمة، فالمخبر الذي مات، لم يكن خصمي، كان مرآتي… التي أرى فيها كيف يمكن للنظام أن يُسقط أبناءه، وكيف يمكن للإنسان أن يبقى إنسانًا، حتى وهو مطاردٌ من وطنه.
ربما لذلك لم أعد أجيب على من يهاجمونني،
لأن الردّ الوحيد الذي يليق بالتسافل، هو الصمت النبيل.
ولأن الحكاية والصورة التي بدأت بـ”مخبرٍ” مات، علمتني أن الموت لا يقتل الإنسان، بل يقتل فينا القدرة على الكراهية.