
في الوقت الذي تواصل فيه آلة الاحتلال الصهيوني عدوانها الوحشي على غزة، وتتعالى أصوات المقاومة صمودًا وثباتًا، تنكشف أمام الأمة واحدة من أخطر التحولات في التاريخ العربي الحديث: تحوّل الأنظمة العربية من موقف “التضامن مع فلسطين” إلى موقف “التقاطع مع إسرائيل ضد المقاومة”.
هذا التحول لم يأتِ فجأة، بل هو ثمرة مسارٍ طويلٍ من التطبيع الأمني والاقتصادي، قادته الولايات المتحدة لتأسيس نظام إقليمي جديد تكون إسرائيل في قلبه، وتصبح المقاومة— وفي مقدمتها حماس— العدو المشترك بدل الاحتلال.
الجذور التاريخية للتحوّل بدأت من مدريد إلى أبراهام، فمنذ مؤتمر مدريد (1991) واتفاق أوسلو (1993)، تمّ إدخال النظام العربي في مسار “السلام مقابل التطبيع”، ثم في “السلام مقابل السلام”، حتى وصلنا إلى اتفاقات أبراهام (2020) التي دمجت إسرائيل رسميًا في الاقتصاد العربي.
تحت هذه المظلة، أصبحت “المصالح المشتركة” تُقدَّم على “الحقوق الثابتة”، وصار العدو القديم شريكًا اقتصاديًا وأمنيًا.
جاءت مرحلة ما بعد “طوفان الأقصى”. فبعد معركة طوفان الأقصى ( 7 أكتوبر 2023 )، واجهت الأنظمة العربية معضلةً تاريخية: هل تقف مع شعبٍ يُذبح أمام العالم أم مع نظامٍ دوليٍّ يُعيد تشكيل الشرق الأوسط؟، فاختارت أغلبها الطريق الثاني— طريق الصمت أو التواطؤ أو المشاركة غير المباشرة في الحرب، تحت شعارات “التهدئة” و”الحفاظ على الاستقرار”.
تنوعت أشكال الاصطفاف العربي مع إسرائيل فى صور متعددة: تحالفات- ضغوط- خطابات- تطبيع علنى ومستتر. هذه الأشكال شكلت خطورة بالغة التأثير على المقاومة:
- التحالف الأمني الإقليمي: وفقًا لتسريبات واشنطن بوست (أكتوبر 2025)، تشارك ست دول عربية— مصر، الأردن، السعودية، الإمارات، البحرين، قطر— في هيكل أمني تديره القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم)، يضم ضباطًا إسرائيليين في تدريبات وتبادل معلوماتٍ ميدانية. الهدف المعلن هو “مكافحة الإرهاب”، أما الهدف الحقيقي فهو ضبط المقاومة ومنع تمددها إقليميًا، وجعل “أمن إسرائيل” جزءًا من الأمن العربي.
- الضغط السياسي والمالي على حماس: القمم العربية الأخيرة— في شرم الشيخ وجدة— دعت حماس إلى: تسليم الحكم في غزة للسلطة الفلسطينية أو حكومة تكنوقراط.
القبول بخطة ترامب “لإدارة اليوم التالي”. ضبط السلاح وتسليمه تدريجيًا تحت إشراف دولي أو عربي.
وربطت تلك الدول أي دعمٍ مالي أو مشاريع إعمار بقبول هذه الشروط.
بذلك تحوّل الإعمار إلى سلاح ابتزاز سياسي: المال مقابل السكون، لا مقابل التحرير. - الإعلام الرسمي والعربي: في عدد من القنوات العربية الرسمية، تغيّر الخطاب من وصف حماس بـ”المقاومة” إلى وصفها بـ”الميليشيا”. أُعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية عن “الإرهاب الإسلامي”، وتم تلميع صورة إسرائيل كـ”شريك سلام” أو “ضحية متطرفين”. هذا الانقلاب الإعلامي يكشف أن الحرب ليست فقط على الأرض، بل على الوعي.
- التطبيع العلني والمستتر: اتفاقات التجارة الحرة، والربط الكهربائي بين إسرائيل والخليج. مشاريع ممرات النقل البرّي (من حيفا إلى دبي عبر الأردن والسعودية). المناورات الجوية المشتركة في البحر الأحمر. كلها خطواتٌ تثبّت وجود إسرائيل كدولةٍ طبيعيةٍ في الجغرافيا العربية، وتحوّل العدوّ التاريخي إلى مركزٍ إقليمي للنفوذ.
ترجع دوافع الأنظمة العربية لممارسة هذا السلوك المشين ” اللاأخلاقى” الى مجموعة من المبررات:
- الخوف من الحركات الإسلامية: تعتبر حماس النموذج الأخطر لأنها تمزج بين الدين والسياسة والمقاومة، وهو ما يُخيف الأنظمة الاستبدادية التي ترى في نجاحها تهديدًا مباشرًا لشرعيتها.
- الاعتماد الاقتصادي على واشنطن والخليج: الدعم المالي الأمريكي والخليجي يُستخدم كأداة ضغط لتوحيد الموقف ضد “المقاومة غير المنضبطة”.
- الهاجس الإيراني: تُسوِّق إسرائيل نفسها حاميةً للعرب من “الخطر الفارسي”، لتجعلهم شركاءها في الحرب على محور المقاومة.
- المصالح الشخصية للأنظمة: كل نظامٍ يبحث عن البقاء، ولو على حساب قضيته التاريخية، فيقدّم الطاعة السياسية لواشنطن مقابل ضمان أمن العرش.
“النتائج الاستراتيجية لهذا التحوّل”
1- تصفية القضية الفلسطينية:
بالمعنى السياسي، أصبحت القضية الفلسطينية مجرّد “ملف إنساني” يُدار بالمساعدات، لا مشروع تحرّر وطني.
تُراد غزة لتكون “إقليماً منزوع السلاح”، والقدس قضية مؤجلة، واللاجئون منسيّون. وهكذا تتحقق أخطر مراحل المشروع الصهيوني: السلام مقابل الاستسلام.
2- شرعنة الاحتلال ودمج إسرائيل إقليميًا: حين يصبح أمن إسرائيل بندًا في البيانات العربية، فإن الاحتلال يتحول من حالة استثنائية إلى “واقع شرعي”، وتصبح إسرائيل جزءًا من النظام العربي الجديد.
3- عزلة الشعوب عن الأنظمة: الشارع العربي يرى ويسمع ويغلي. وكلما ازداد تطبيع الأنظمة، ازداد غضب الشعوب، ومعه احتمال انفجارٍ سياسيٍ قادم يُعيد خريطة الشرعية.
فالأمة التي تسكت عن احتلالٍ في غزة لن تسكت طويلاً عن احتلالٍ داخلي في أوطانها.
4- تحوّل المقاومة إلى مشروع أممي: حين تُحاصر حماس في غزة، ينهض بديلها في الضفة واليمن ولبنان والعراق، ويظهر شكل جديد من المقاومة العابرة للحدود، يوحّد القوى الشعبية ضد منظومة التطبيع والخيانة. إنها بداية جبهة الأمة في مواجهة المشروع الصهيوني–الأمريكي.
قال الله تعالى: ﴿ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾ [المائدة: 51]، أي: من يتخذ أعداء الله أولياء فهو منهم في الحكم والمصير.
إن الاصطفاف مع العدو المحتلّ ضد من يقاومه خيانة شرعية وإنسانية، لا يبررها خوف ولا مصلحة.
وإن المقاومة— في ميزان الشريعة والسياسة معًا— هي فرض عينٍ حتى زوال الاحتلال، ولا يجوز شرعًا دعمُ العدوّ في حربه على المستضعفين.
“إلى أين يتجه هذا المسار؟”
1- على المدى القريب: ستحاول الدول العربية تثبيت وقف النار وإعادة إعمارٍ مشروط، وتقديم “نظامٍ إداريٍ منزوع السلاح” في غزة.
2- على المدى المتوسط: ستُطرح مشاريع كونفدرالية أو ممرات اقتصادية بين إسرائيل والعرب، وتُرفع لافتة “الشرق الأوسط الجديد” مجددًا.
3- على المدى البعيد: إذا استمرّ هذا الانحراف، فسيولد محور مقاومة شعبي أممي يعيد الصراع إلى جوهره:
بين أمةٍ تُدافع عن مقدساتها وتحالفٍ استعماريٍ صهيونيٍ عربيٍ رسمي.
الخلاصة:
إن ما يجري اليوم ليس مجرّد ضغوطٍ سياسية على حماس، بل تحوّلٌ استراتيجي في هوية العالم العربي: من أمّةٍ تُقاتل لتحرير القدس، إلى أنظمةٍ تُقاتل لحماية الكيان الصهيوني.
لكن التاريخ لا يرحم، والضمير الشعبي لا يموت.
ستبقى فلسطين معيار الشرف والهوية،
وستبقى المقاومة— رغم الحصار— هي النبض الذي يكشف من مع الأمة ومن مع العدو.
حتمًا ستنهزم الخيانة، وستبقى فلسطين.