مقالات وآراء

عبد الرحمن رفاعي يكتب : أن تترك المنصب لتُنقذ الفكرة… حين ينهزم التغيير أمام البيروقراطية

علقت الأستاذ نبيلة بيلا عبر صفحته الشخصية على منشور الأستاذ عبد الرحمن رفاعي قائلاً: “يا رب نفهم للاسف …”
عبارة بسيطة لكنها كانت مدخلًا إلى واحد من أعمق النصوص التي كُتبت عن معنى التغيير، وعن تجربة إنسان حاول أن يجعل من الإدارة علمًا حيًا لا ورقًا جامدًا.
وفي هذا المقال، يسرد الأستاذ عبد الرحمن رفاعي تجربته الصادقة بكل ما فيها من أحلام وصدمات، محاولًا أن يقدّم شهادة على صراع الفكر مع الروتين، والأمل مع البيروقراطية، والطموح مع المقاومة الداخلية.

يا رب نفهم يمكن الناس استغربت لما سبت منصب كنت وصلتله بعد تعب سنين،
لكن الحقيقة إني ما سبتش عشان زهقت… أنا سبت عشان احافظ على اللي جاي، على فكري، وعلى نفسي.
أنا كنت داخل الإدارة بحلم، مش حلم شخصي، لكن حلم أشوف فيه التدريب والبحث الطبي في مصر بيتحوّل من روتين لحياة علمية حقيقية.
كنت مؤمن إن كل خطوة صغيرة ممكن تفتح باب كبير.

بس لما لقيت إن الناس حواليا مش جاهزة تسمع،
وإن التغيير بيتقابل بالريبة والشك والمعاندة مش بالدعم، قررت أمشي وأنا واقف، مش منكسر.
أنا مؤمن إن فكرة “المنظمة المتعلمة” مش مجرد نظرية، دي أسلوب حياة إداري بيحوّل أي مؤسسة صحية لمكان بينبض بالنمو والمعرفة.
ولما استلمت إدارة التدريب والمعاهد والأبحاث الإكلينيكية فى الجيزة كنت شايفها فرصة حقيقية نعيد بيها تعريف “التعلُّم في القطاع الصحي” في مصر.

كنت بحلم أخلق بيئة تدريب مختلفة،
مش مجرد كورسات أو شهادات، لكن نظام بيبنّي عقلية متعلمة على كل مستوى — من اول طلبة معاهد التمريض، لحد الدكاترة والقطاع الطبى كله فى الوحدات وفي المستشفيات.
كنت شايف إن دورنا مش بس ندرّب، لكن نخلق ثقافة بتشجّع السؤال، وبتعتبر الغلط خطوة للتعلم مش للوم.
كنت بحاول أخلّي كل تدريب ليه هدف واضح ومؤشر قياس، ويرتبط مباشرة بخطة الدولة للصحة وجودة الرعاية.

يعني بدل ما نعمل تدريب معتاد منخفض القيمة عن أى حاجه وخلاص،
لأ نوفر تدريب حقيقى زى الإنعاش القلبى الرئوى بشكل مستمر ودايم عشان نبقى عارفين إنه هيقلل أخطاء الطوارئ بنسبة كذا، وهتنعكس على الأداء.
لكن بعد سنتين من الشغل، اكتشفت إن الحلم ده بيصطدم بواقع صعب جدًا… اللي واجهته ماكانش بس نقص موارد ولا وقت، ولا استخسار مجهود ودعم، اللي واجهته كان عقليات بتقاوم التغيير.

ناس شايفة إن “اتعودنا نعمل كده وبس” هي القاعدة المقدسة،
والفريق اللي كنت متخيله شريك في التعلُّم، يا خسارة، بقى أغلبه شايف إن التغيير تهديد مش فرصة.
كنت بحاول أفتح الأبواب، وهم بيقفلوا الشبابيك. بحاول نشتغل بالعلم، وهما متمسكين بالروتين. بحاول نزرع ثقافة “إزاي نتعلم من اللي حصل”، وهم شايفين “مين غلط ولازم يتحاسب”.

في الأول، كنت فاكر إن المقاومة دي عادية وهتتغير بالوقت،
لكن مع مرور السنتين، فهمت إن فيه فرق بين اللي محتاج وقت، واللي مش ناوي يتغيّر أصلاً.
ساعتها اخدت قرار إني أسيب مكاني، مش ندمًا، لكن اقتناعًا إن المكان اللي مش هيقبل التعلُّم مش هيسمحلك تبني اللي جاي عشانه.

أنا ما سبتش المنصب لأنّي فشلت،
أنا سبت عشان ما أرضاش أقلّل من رؤيتي، ولا أشتغل بنصف قناعة، أو أمشي في اتجاه عكسي للي مؤمن بيه، أو ابقى قاعد فقط مجرد بمضى ورق وخلاص.
النهارده لما ببص ورايا، ما عنديش أي ندم. عندي احترام لتجربتي، ووعي أكبر بقد إيه التغيير الحقيقي بيحتاج شجاعة مش بس علم.

أنا مؤمن إن اللي ما يتقبلش فكرة التعلُّم،
هتتجاوزه الأيام، لأن المستقبل بتاع الناس اللي بتتعلم وبتطور نفسها كل يوم.
انا من أول يوم دخلت فيه الإدارة، ما كنتش شايف نفسي “مدير وبس” أو مسؤول بيوقّع ورق… كنت شايفها فرصة حقيقية نقدر نغيّر بيها طريقة التفكير في التدريب والبحث الطبي في مصر.

أنا ما كنتش عايز نعمل دورات والسلام،
ولا مؤتمرات شكلها حلو على الورق. كنت عايز نخلق حياة تعليمية مستمرة جوا القطاع الصحي، يشارك فيها الطبيب والممرضة والإداري والباحث.
كل واحد يحس إن له دور، وإنه بيتعلّم وبيطوّر نفسه بجد، مش بيحضر علشان ياخد شهادة.

كنت دايمًا بسأل نفسي: “هو التدريب ده بيغيّر إيه فعلاً؟”
لقيت إن كتير من الدورات بتتعمل بالعُرف، مش بالاحتياج. فعشان كده، كنت ناوي أطبّق نظام تحليل احتياجات التدريب (Training Needs Assessment)، يعني نبدأ من الميدان مش من المكتب.

كل مستشفى أو إدارة تبعت لنا بياناتها: فين نقاط الضعف؟
ومن هنا نبدأ نخطط تدريب يخدم الواقع مش الروتين.
مثلاً، لو لقينا معدل الأخطاء الدوائية زاد في قسم معين، يبقى أول ورشة تبقى عن “سلامة إعطاء الدواء”. ولو العدوى الداخلية عالية، نعمل تدريب على “مكافحة العدوى”، ونرجع بعد كده نقيس الفرق في الأرقام.

كنت مؤمن إن التدريب من غير قياس أثره ملوش قيمة حقيقية.
كنت مؤمن إن التعليم مش شريحة PowerPoint ولا محاضر بيقرأ.
التعليم الحقيقي بيحصل لما الشخص يعيش الموقف ويتفاعل معاه.
عشان كده كنت ناوي أطبّق أدوات زي:

  1. المحاكاة (Simulation) — خصوصًا في الطوارئ والعناية والحضانات.
  2. نظام المينتور (Mentorship) — كل خبير يحتضن شاب لسه في أول الطريق.
  3. مجتمعات التعلُّم (Learning Circles) — جلسات مفتوحة نتكلم فيها بصراحة عن أخطاءنا وتجاربنا.

كنت عايز نخلق بيئة فيها “نَفَس علمي” حقيقي،
اللي فيها الكل بيتعلّم من الكل، ومفيش كبير على المعرفة.
أنا مؤمن إن الورق بياكل الوقت، والوقت هو أغلى حاجة في الإدارة.

كنت عندى حلم أعمل نظام ميكنة لكل الأنشطة فى الإدارة،
لكن لازم يبقى فيه الشركاء المحبطين اللى شايفين اللى انت بتعمله ده أوفر ومالوش لازمة طالما فيه دفتر حضور وانصراف وهو ده الغاية من وجودهم.
كان نفسى اعمل قاعدة بيانات للأبحاث الإكلينيكية، تربط بين الباحثين وتمنع تكرار الجهود وتساعدنا نستفيد من كل الداتا اللى طلعت من رسايل الدكاترة والباحثين.

كنت شايف إن التكنولوجيا مش رفاهية…
هي وسيلة عدل وكفاءة وشفافية.
على جانب تانى كنت شايف بعيني تعب طلبة معاهد التمريض اللي بيتعلموا نظري بس، ويخرجوا للواقع من غير تدريب عملي كفاية.

فكان عندى خطط وافكار كتير للتعاون مع جهات كتير،
اطلع فيها الطلبة اللى عندى بأقصى استفادة ممكنة، لكن اكتشفت برضو ان اللى عاوز يساعد لازم يستفيد منك، وممكن تكون الاستفادة دى على حساب ضميرك ومبادئك، وممكن كمان على حساب الطلبة ذات نفسهم ولمجرد الإستعراض والانجازات الكرتونية.

كنت مؤمن إن في مصر عندنا عقول جبارة،
بس بتتوه في البيروقراطية أو الشغل الفردي.
فكان نفسى أعمل وحدة دعم بحثي تساعد الباحث من أول فكرة لحد النشر.
تراجع الأخلاقيات، تراجع التصميم، تساعد في التحليل الإحصائي، وتخلي البحث الطبي جزء من هوية القطاع مش مجرد مجهود شخصي.

لكن لقيت اللى اخد مجهودنا واذانا واحبطنا وندمنا على لحظة صدق عيشناها فى تحقيق الحلم ده.
كنت دايمًا بقول: “النجاح مش إننا نكمّل الخطة، النجاح إننا نطوّرها.”
كل تدريب لازم يتقاس أثره، وكل بحث لازم يتراجع نتايجه، والتغذية الراجعة (Feedback) لازم تبقى أداة للتصحيح مش للتجميل.

كنت عايز الإدارة تبقى “كائن حي بيتعلّم”،
مش مجرد إدارة بتنفذ اللي مكتوب.
أنا كنت شايف الصورة كلها، ومؤمن إن الفكر هو أول خطوة في أي تغيير.
لكن لما لقيت بعد سنتين إن في تعنت، وإن الناس مش عايزة تتحرك من مكانها، حتى الفريق اللي بدأت معاه بدأ يتراجع خوفًا من الجديد، قررت أمشي وأنا راضي.

ما ندمتش لحظة،
لأني كنت عارف إني حاولت أقدّم حاجة حقيقية، مش شكلية.
أنا ما سبتش حلمي، أنا بس غيّرت طريقه.
ويمكن اللي مقدرتش أعمله جوه الإدارة، هقدر أعمله في أرض أوسع، وسط ناس بتؤمن بالفكرة مش بالمكانة.
لأن في النهاية… القيمة مش في إنك تمسك منصب، القيمة إنك تفضل مؤمن، وما تسيبش فِكرك يموت في وسط الزحمة.
وده بالضبط السبب اللي خلاني أسيب الإدارة… وأنا مش ندمان.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى