مقالات وآراء

إسلام الغمري يكتب : طوفان قبرص يُزلزل المتوسط ويهز تركيا: قراءة في أخطر تحوّل جيوسياسي منذ نصف قرن

مقدمة

من قلب البحر الأبيض المتوسط، حيث تتشابك مصالح القوى وتتنازع الخرائط القديمة والجديدة، خرجت جزيرة صغيرة لتشعل أزمة كبرى.
قبرص، التي طالما كانت مرآةً لصراع الشرق والغرب، عادت اليوم إلى واجهة الأحداث، لا عبر المدافع أو البوارج، بل من خلال صناديق الاقتراع.
فقد أفرزت الانتخابات الأخيرة في شمال الجزيرة ما يمكن وصفه بـ«الزلزال السياسي»، الذي تجاوز حدودها الضيقة ليهزّ أنقرة ويُربك المتوسط بأسره.

ما وراء الصناديق

فوزُ المرشح اليساري طوفان أرهرمان بنسبةٍ تجاوزت ثلاثةً وستين في المئة من الأصوات لم يكن حدثًا انتخابيًا عاديًا.
بل حملَ في طيّاته رسائلَ سياسيةً عميقةً تقرأها أنقرة بعيون القلق والتحفّز.
فالرجل القادم من خلفيةٍ علمانيةٍ أوروبية يرى تركيا «جارًا قويًا» لا «وطنًا أمًّا»، ويدعو إلى علاقة «ندية» معها تقوم على المصالح لا على الانتماء.
في المقابل، تلقّت أوروبا النتيجة بترحيبٍ كبير، ووصفتها بأنها فرصةٌ لإعادة توحيد الجزيرة بعد نصف قرنٍ من الانقسام.

لكنّ هذا الخطاب الهادئ يخفي وراءه مشروعًا متكاملًا لإعادة صياغة الواقع القبرصي بما يخدم مصالح الغرب ويحدّ من النفوذ التركي المتجذر منذ حرب عام 1974، حين تدخلت أنقرة عسكريًا لحماية القبارصة الأتراك من المذابح.


ولذلك فإنّ أنقرة لا تنظر إلى هذه النتائج كتحوّلٍ ديمقراطي، بل كجزءٍ من هندسةٍ سياسيةٍ غربيةٍ تستهدف تغيير هوية الشمال القبرصي وقطع آخر خيوط الارتباط الثقافي والوجداني مع تركيا.

قبرص: الجغرافيا التي لا تهدأ

لم تكن قبرص يومًا جزيرةً عادية؛ فهي قلب البحر وملتقى الممرات.
تحتضن قواعد بريطانية منذ الحقبة الاستعمارية، وتستضيف منشآتٍ عسكريةً فرنسية، وتجاور مياهها أراضي إسرائيل ومصر وتركيا.
ولهذا، فإن من يسيطر على قبرص يسيطر على مفاتيح الطاقة والنفوذ في شرق المتوسط.

في السنوات الأخيرة، شهدت المنطقة سباقًا محمومًا للسيطرة على حقول الغاز البحرية، فأنشأت إسرائيل واليونان ومصر تحالفًا ثلاثيًا يُقصي تركيا من المعادلة.
وفي المقابل، ردّت أنقرة بإطلاق مشروع “الوطن الأزرق”، الذي يوسّع مفهوم الأمن القومي التركي ليشمل المجال البحري من بحر إيجة حتى سواحل ليبيا.
لكنّ الغرب لم يقف مكتوف اليدين؛ إذ سعى إلى تحويل قبرص إلى رأس حربة سياسية واقتصادية في وجه تركيا، مستخدمًا أدواتٍ ناعمةٍ كالإعلام والتعليم والتغلغل الثقافي.

الأطماع الإسرائيلية والتحرك التركي

تُشير تقارير متطابقة إلى أن إسرائيل نقلت منظومات دفاعية قصيرة المدى إلى قبرص اليونانية بذريعة التدريب المشترك، كما ضاعفت استثماراتها في العقارات والموانئ القبرصية.
ولم يكن ذلك استثمارًا اقتصاديًا بقدر ما هو تموضع استخباري طويل الأمد يتيح مراقبة العمق التركي.
بل إن بعض مراكز الفكر في تل أبيب لا تُخفي قناعتها بأن قبرص جزءٌ من «المجال الحيوي لأرض الميعاد الكبرى»، في تكرارٍ رمزيٍّ لأطماعٍ دينيةٍ قديمةٍ بثوبٍ جديد.

هذا الواقع جعل أنقرة تستشعر الخطر المباشر، فارتفعت أصوات داخل الدولة العميقة تحذّر من ترك الجزيرة تنزلق نحو المدار الأوروبي.
وكان أشدّها صراحةً تصريح زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي، أحد أركان التحالف الحاكم، الذي دعا علنًا إلى ضمّ قبرص الشمالية إلى تركيا إذا استمر الضغط الغربي.
ورغم تحفظ الرئيس رجب طيب أردوغان، فإنّ أجهزة الدولة بدأت بالفعل إعادة تقييمٍ شاملة لكلّ منظومة الأمن البحري والدفاعي في المتوسط.

المتوسط بين التمدد والخوف

استقبلت العواصم الأوروبية الحدث وكأنها أمام فرصة تاريخية لتطويق تركيا.
بروكسل سارعت إلى الترحيب بالنتائج، وباريس عززت وجودها البحري في شرق المتوسط، بينما أعادت واشنطن فتح ملف العقوبات القديمة بطريقةٍ غير مباشرة عبر «الملف القبرصي».
وفي المقابل، بدا الموقف التركي متماسكًا ومندفعًا بثقة، إذ تعتبر أنقرة أن من يُمسك بجغرافيا قبرص يُمسك بخناق المتوسط.
إنها معركة سيادةٍ ووجودٍ لا تقلّ أهمية عن معارك التاريخ الكبرى التي خاضتها تركيا في البرّ.

المستقبل القريب: ردع لا تصعيد

تُدرك أنقرة أن المواجهة القادمة لن تكون عسكرية، بل استراتيجية طويلة الأمد.
ومن المرجّح أن تتحرك في ثلاثة مسارات متوازية:
1. تعميق الارتباط السياسي والإداري بشمال قبرص، بما يشبه الاتحاد الفعلي غير المعلن.
2. تعزيز الانتشار البحري والجوي في شرق المتوسط عبر القواعد والسفن والطائرات المسيّرة.
3. توسيع شبكة التحالفات مع أذربيجان وقطر وباكستان، في إطار ما يُعرف بـ«العالم التركي الموسّع»، لضمان توازن الردع على أكثر من جبهة.

بهذه الخطوات تسعى تركيا إلى تثبيت معادلة جديدة: لا وصاية غربية بعد اليوم على المتوسط، ولا عودة إلى الوراء في مشروعها البحري.

ما بعد الطوفان

قبرص اليوم ليست مجرد جزيرةٍ صغيرة، بل رمزٌ لصراعٍ أعمق على مستقبل المنطقة كلها.
فالانتخابات الأخيرة لم تُعد ترتيب السلطة في الشمال فحسب، بل كشفت عن تحوّلٍ ثقافي وجيلي في المجتمع القبرصي التركي، يعكس نتائج عقودٍ من التغريب والاختراق الإعلامي الغربي.
إنها معركة هوية بقدر ما هي صراع نفوذ.

وبينما يحاول الغرب إعادة رسم حدود المتوسط بالسياسة، تتحرك تركيا بثقةٍ متزايدةٍ نحو ترسيخ دورها كقوةٍ إقليميةٍ كبرى، تُعيد تعريف أمنها القومي على ضوء واقعٍ جديد.
لقد انتهى زمن الدفاع عن الشواطئ، وبدأ زمن صناعة الخرائط.

خاتمة

ما يحدث في قبرص اليوم هو اختبارٌ جديدٌ لتركيا الحديثة، واختبارٌ أشدّ للعالم الذي يحاول محاصرتها.
فأنقرة تعرف أن البحر ليس ساحة معركة فحسب، بل فضاءٌ لتوازن القوى وبقاء الأمم.
ولذلك، فإنّ طوفان قبرص — رغم خطورته — قد يكون بدايةً لولادةٍ سياسيةٍ جديدة تُعيد رسم هوية المتوسط لعقودٍ قادمة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى