
لا أميل عادةً إلى الرد على مثل هذا اللمم، ولا أتوقف طويلًا أمام الصغائر، لكن بعض وسائل الإعلام العربية والأجنبية رغبت في سماع موقفنا وتحليلنا لما جرى في مشهد الندوة التثقيفية بالأمس. آثرتُ أن أثبت في هذه السطور موقفًا واضحًا، لعلّه يُضيء ما التبس على البعض، ويضع الأمور في نصابها: فهمًا لا خصومة، وتوضيحًا لا تشهيرًا.
موقفٌ لا يُوجَّه إلى المذيعة لمى جبريل، ولا إلى الصور واللوجوهات التي ازدحمت خلفها، بل إلى فكرةٍ خاطئةٍ أُنتجت بلا وعي، ونُفِّذت بلا بصيرة، وقُدِّمت أمام أكبر رأس في الدولة دون أن يهتزَّ ضميرٌ أو يرتجف وعي. عنوان اللحظة باختصار: ظلٌّ يتهم ضوءه؛ فلسنا ظلًّا لأحد، بل ضوءٌ يفضح زيف الظلال حين تتطاول على النور.
أبياتٌ خالدة للشاعر أبي العتاهية بدت كأنها كُتبت لهذه اللحظة بعينها:
فرزُ النفوسِ كفرزِ الصخورِ
ففيها النفيسُ وفيها الحَجرُ
وبعضُ الأنامِ كبعضِ الشجرِ
جميلُ القوامِ شحيحُ الثمرِ
وبعضُ الوعودِ كبعضِ الغيومِ
قويُّ الرعودِ شحيحُ المطرِ
وكمْ من كفيفٍ بصيرِ الفؤادِ
وكمْ من فؤادٍ كفيفِ البصرِ
وخيرُ الكلامِ قليلُ الحروفِ
كثيرُ القطوفِ بليغُ الأثرِ
وكمْ من أسيرٍ بقلبٍ طليقٍ
وكمْ من طليقٍ كواهُ الضجرُ
ولو لم تهزَّ الرياحُ الزهورَ
لما فاحَ عطرٌ وماتَ الزهرُ.
سكريبتٌ كُتب على عجل خلط بين عدوّ الوطن ومخالف الرأي؛ معركةُ أكتوبر التي خيضت بالسلاح جرى تسخيفها إلى معركةٍ مع رأيٍ يُخاض بالكلمة. خلطٌ بين حربٍ على العدو وحربٍ على الرأي، وبين من أراد إسقاط مصر، ومن أراد إصلاحها.
تعليماتٌ أُعطيت — على ما يبدو — إلى مخرج المشهد: “هاتوا أعداء الوعي”. فجاءت النتيجة منصاتٌ مصريةٌ حرّة هاجرت لتبقى مصرية الصوت والضمير. بدل عرض منصّاتٍ صهيونيةٍ أو أجنبيةٍ تنخر في وعينا، اختيرت وجوهٌ مصريةٌ مطاردةٌ في الخارج، لأن استباحتها “أسهل” ولا مساءلة عليها.
عبثٌ لا يرقى إلى المؤامرة، بل غباءٌ سياسيٌّ وإفلاسٌ مهنيّ، يكرّس ثقافة الاستسهال، ويستبدل صناعة الوعي بصناعة العدوّ. عقلٌ يرى في الاختلاف خطرًا، وفي النقد خيانة، وفي الحرية فوضى، فيحوّل القاعة إلى شاشةٍ تُشيطن المختلف وتُقدِّس المطبِّل.
خطاب قناة الشرق لم يكن يومًا خصومةً مع الوطن، بل نداء عقلٍ وحبّ يضع الوطن فوق النظام، والشعب فوق الحاكم، والضمير فوق المكسب. كثيرٌ مما نقوله اليوم صار يُقال عندهم غدًا؛ حقيقةٌ تُغضب من اعتاد الظلّ لأن الضوء يفضح العيوب.
سؤالٌ أوضح من الضجيج: مَن العدو؟ الموقع الجغرافي أم الموقف الوطني؟ الانتماء يُقاس بنبض الضمير لا بعنوان المقرّ. لو كان النقد المخلص عدوًّا، لكان الأولى تعليق عشرات اللوجوهات التي مارست التضليل، لا منصّاتٍ آثرت أن تدفع ثمن صوتها.
مشهدُ الأمس كشف اعترافًا ضمنيًّا بتأثيرنا؛ الضعيف وحده يخاف الكلمة، أمّا الواثق فيحاور ولا يُقصي، يجادل بالتي هي أحسن ولا يستدعي الجموع لتصفق للخلط بين أكتوبر المجد وأكتوبر العبث. صورةٌ صغيرة بحجمها، كبيرةٌ بدلالتها، لأنّ المشكلة ليست فيما عُرض، بل في العقول التي صمتت.
مصر تحتاج إعلامًا حرًّا مستقلًّا موضوعيًّا، يحسن إدارة الخلاف لا دفنه، ويصون الفكرة لا يُقدِّس الأشخاص. إعلامًا ينير ويصحّح ويُصوّب، يرى في كل مصري شريكًا في الوطن لا خصمًا في المعركة، ويبني جسورًا بين المختلفين بدل أن يحفر خنادق بينهم.
موقفُنا — في قناة الشرق — واضح:
نحبّ مصر بطريقتنا لا بطريقتهم؛ نكون صوتًا لمن حُرم صوته، ومنبرًا لمن طُمست حقيقته. نُصرّ على الأمل في وجه اليأس، والحلم في وجه القمع، والحوار في وجه الضجيج. أكبر اعتذارٍ عن أخطاء الماضي أن نتوحّد عند الخطر لا أن نتفرّق على العناوين.
تُهمة “التحريض” نستقبلها بتصحيح المعنى: نعم، نُحَرِّض — لا على العنف — بل على التالي:
• حبّ مصر لا كراهيتها.
• نبذ الكراهية لا تخليقها.
• رفض العنف لا استدعاؤه.
• العدالة والحرية لا الانتقام.
• الحوار وأدبه لا الخصام.
• الكرامة الوطنية لا الانكسار.
• نزع الخوف لا زرعه.
• قبول الآخر لا إقصاءه.
• التسامح والحب لا الثأر والتشفي.
تلك رسالتنا ومحركنا؛ لا نكره أحدًا، لا ننافق أحدًا، لا نغادر خندق الوطن مهما تبدّلت الرايات. ضوءٌ يثبت حضوره بالنور لا بالضجيج؛ ظلّهم يتهم ضوءه لأن الضوء يكشف العيب، ولا يخاف الحقيقة.
دعاءٌ حسن أهديه لكل خصم وصديق بعد أن تعلّمه القلب من الوجع والحلم معًا:
اللهم اجعلني كبيرًا يتحمّل النقد، ولا تجعلني صغيرًا يضيق بالرأي.
اجعلني قلبًا يحبّ ويجمع، ولا تجعلني أكره وأفرّق.
اجعلني صادقًا مع العدوّ والصديق، وأعرف قدري باحترام أقدار الآخرين.
سؤالُ المحبّين يُطرح كل مرة: هل ما زلت تحبّ مصر رغم كل ما يحدث؟ جوابٌ يسير على لسان القلب قبل اللسان: من لا يحبّ أمَّه — وإن قست — جاحدٌ لا خير فيه. حبُّ مصر فطرة، كما غنّت أم كلثوم في رائعتها الخالدة:
أحبُّها من كلِّ روحي ودمي،
يا ليت كلَّ مؤمنٍ بعزِّها يحبُّها حُبِّي لها.
حبٌّ لا يساوم، وانتماءٌ لا يُشترى، ووعيٌ لا يُدار بريموت. ضوءٌ لا يُطفئه ظِلّ، ووطنٌ لا يُصلحه إلا صدقُ المحبة وشجاعةُ الاعتراف وطهارةُ الكلمة.