شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: رئيس الحزب أشرف المقدم ليس ميكانيكي… ولا يفهم في الميكانيكا

قالوا لرجلٍ إن ابنته تُعاشر في الحرام “الميكانيكي” الذي يسكن أسفل منزلهم، فانتفض غاضبًا، لا لينكر الفعل، بل ليصحّح المعلومة قائلاً بثقة عجيبة: “هو ليس ميكانيكيًا أصلًا، ولا يفهم شيئًا في الميكانيكا!”
تذكّرتُ هذه الطرفة وأنا أسمع خبر القبض على رئيس حزبٍ اسمه حزب شعب مصر، ومعه أحد عشر رجلًا، في مشاجرة داخل مقر الحزب بالجيزة.
المشاجرة قد تكون جريمة، لكنها جريمة أقل شأنًا من أن يكون سببها نزاعًا على “ثمن الترشيح” أو “مقاعد القوائم”، في مشهدٍ بات أكثر ألفةً من الدهشة، وأكثر اعتيادًا من الصدمة.

القصة هنا ليست في الأسماء ولا في الأشخاص، بل في الظاهرة التي جعلت من العمل الحزبي ميدانًا للمنازعة لا للمنافسة، وللتربّح لا للتعبير.


صرنا أمام أحزابٍ تُنشأ في المكاتب لا في الميادين، وقياداتٍ تُختار بالولاء لا بالكفاءة، وسياسةٍ تُدار بالأموال لا بالأفكار.

ما جرى داخل هذا الحزب ليس حادثًا عابرًا، بل عَرَضٌ لمرضٍ قديم اسمه الفساد الانتخابي؛
ذاك الذي صار مقنّنًا ومقبولًا اجتماعيًا، مغلّفًا بعبارات براقة مثل “التطوير” و“القائمة الوطنية”.
فحين يُقبض على حزبٍ هامشي بسبب مشاجرة على المال الانتخابي، يتهادى السؤال: كم حزبًا آخر لم يُقبض عليه بعد؟ وكم مشاجرةٍ أُغلقت أبوابها بالتراضي أو بالتواطؤ؟

المفارقة أن القانون يُطبّق بحسمٍ على الهامشيين، بينما يُغضّ الطرف عن المتنفذين الذين يمارسون الجريمة ذاتها من مقاعدهم الوثيرة.
فالقانون في مصر كثيرًا ما يتذكّر صغار المذنبين، وينسى كبار المجرمين.

في هذه البيئة، تذوب الفروق بين العمل السياسي والصفقة التجارية؛
الأحزاب تتحوّل إلى دكاكين تُباع فيها الترشيحات كما تُباع الرخص، والناخب إلى زبون، والسياسة إلى سلعة بلا ضمان ولا أخلاق.

الدستور المصري في مادته الخامسة نصّ على أن النظام السياسي يقوم على أساس التعددية الحزبية والمشاركة السياسية،
لكنّ التعددية تحوّلت إلى أوراق صناعية تزيّن واجهة الدولة دون أن تثمر ديمقراطية حقيقية.
القانون رقم ٤٠ لسنة ١٩٧٧، الذي صُمّم لحماية التعددية، صار مظلّة تشرّع العبث أكثر مما تردعه.

المصريون الذين كانوا يثورون على شراء الأصوات في زمن مبارك، صار بعضهم اليوم يتعامل مع شراء القوائم كأنه “فنّ انتخابي جديد”.
الفساد لم يعد يُرتكب في الخفاء، بل صار يُمارس علنًا باسم الشرعية، ويُسوّق في الإعلام باسم “حق التمثيل”.

لست أكتب دفاعًا عن أحد، ولا شماتةً في أحد.
لكن ما حدث يستحق أن يُقرأ بعين القانون لا بعين الانتقام، وبمنطق الإصلاح لا بمنطق التصفية.
فالمشاجرة في حزبٍ مغمور ليست أخطر ما في المشهد، بل أن يتحوّل المال الانتخابي إلى لغةٍ رسميةٍ جديدة في سوق السياسة المصرية.

لا نريد سقوط حزب، بل نهوض حياة حزبية.
ولا نطالب بإدانة شخص، بل بمراجعة منظومةٍ سمحت أن يصبح الكسب الانتخابي بديلاً عن الكسب السياسي، وأن تتحوّل الأحزاب من مدارس للوطنية إلى فروع تجارية للسلطة.

إن القبض على رئيس حزب شعب مصر، مهما بدا تفصيلًا صغيرًا، يجب أن يكون جرس إنذار كبير:
إما أن نعيد تعريف السياسة بوصفها مسؤولية وشرفًا عامًا،
أو نتركها نهبًا لباعةٍ متجولين في أسواق الديمقراطية المزوّرة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى