
في قاعة المجلس الفخمة، حيث تتلألأ الثريات على الوجوه المطمئنة، والكراسي المزركشة تحتضن الأجساد المستريحة، كان المشهد يُختزل في لوحة سريالية واحدة، يد ترفع، وأخرى تتبعها، وثالثة تُقلّدها، حتى اكتملت الدائرة المفرغة.
مائتان وتسعة وتسعون صوتاً، كلها في اتجاه واحد، وكأننا أمام جوقة موسيقية تؤدي سيمفونية محفوظة النوتة، لا يجرؤ عازف على الخروج عن اللحن.
هذا هو مشهد انتخاب رئيس مجلس الشيوخ، الذي حصل فيه المستشار عصام الدين فريد على جميع الأصوات، دون صوت معارض واحد، بل ودون صوت باطل واحد، إنه إجماع يثير الريبة، ويُذكّرنا بمقولة قديمة:
“إذا اجتمعت الأمة على ضلالة، فهي ليست بإجماع.”
لننظر إلى خريطة القوى في المجلس، أحزاب تدّعي المعارضة التاريخية، مثل الوفد والتجمع والناصري، تمتلك عشرة مقاعد، وأحزاب الحيز المتاح التي تدّعي تمثيل الشعب بشراسة، مثل المصري الديمقراطي والعدل والإصلاح والتنمية، تمتلك سبعة عشر مقعداً، المجموع سبعة وعشرون مقعداً، كان بإمكانها أن تقدم مرشحاً واحداً على الأقل لرئاسة المجلس، أو على الأقل لمنصب أحد الوكيلين.
كان بإمكانها أن تقدم معنىً مختلفاً، ولو شكلياً، لفكرة المعارضة.
لكن الذي حدث كان أقرب إلى مسرحية هزلية، فلم يجرؤ أحد على التقدم، بل سارع الجميع إلى التصويت للمرشح الوحيد، وكأنهم تلاميذ في فصل، والأستاذ ينتظر منهم إجابة واحدة صحيحة.
فما قيمة معارضة لا تملك جرأة الترشح؟
وما معنى وجود أحزاب في المجلس إذا كان دورها يقتصر على التصفيق؟
وهنا تكمن الخيانة المزدوجة:
الأولى، خيانة للمواطنين الذين وثقوا في هذه الأحزاب على أمل أن تمثل صوتاً مختلفاً، ولو في إطار النظام، فبدلاً من أن تكون صوتاً للمواطن البسيط، أصبحت هذه الأحزاب مجرد ديكور يزين صورة الإجماع المزيف.
الثانية، خيانة لفكرة الديمقراطية نفسها، فالديمقراطية لا تعني فقط تعدد الأحزاب، بل تعني أيضاً تعدد الآراء والمواقف، فعندما تتحول المعارضة إلى صدى للسلطة، فإن الديمقراطية تتحول إلى طقس شكلي أجوف.
الأمر لا يتوقف عند حدود التصويت لرئيس المجلس، بل يمتد إلى الطريقة التي تشكل بها المجلس أساساً، فمجلس الشيوخ هذا جاءت المعارضة إليه عبر نظام القائمة المغلقة المطلقة، التي تتحكم فيها السلطة التنفيذية في توزيع المقاعد، وعبر التعيين المباشر من رئيس الجمهورية.
إنه نظام مصمم لإنتاج أغلبية مطيعة، ومعارضة مسيّجة.
في هذا النظام، تكون المعارضة جزءاً من لعبة مضمونة النتائج، إنها معارضة “مسموح بها”، بشرط أن تظل ضمن الخطوط الحمراء، وأن تعلم دورها جيداً في المسرحية، وهي أن تظهر حين يريدون لها الظهور، وتصمت حين يُؤمر لها الصمت.
والنتيجة: مجلس شيوخ بلا روح، بلا حوار حقيقي، مجلس سيصبح مجرد ختم مطاطي لقرارات السلطة التنفيذية، وسيُضفي شرعية زائفة على قرارات قد لا تكون في صالح الشعب.
أما هذه الأحزاب “المعارضة”، فقد كشفت عن حقيقتها منذ اللحظة الأولى، لقد فضحت نفسها بنفسها، وأثبتت أنها ليست أكثر من أمساخ سياسية، لا تستحق أن يطلق عليها اسم معارضة، بل هي “موالاة مرخصة”، أو “ديكور معارض”.
إن هذا المشهد يقدم درساً واضحاً للمواطن المصري:
لا تثقوا بالأقنعة، ولا بالشعارات البراقة، فالمعارضة الحقيقية لا تولد في قوائم مغلقة، ولا في مجالس مُعدة سلفاً، المعارضة الحقيقية تنبع من صلب الشعب، وتناضل من أجل حقوقه، ولا تخاف في الحق لومة لائم.
أما هذه المجموعة من “المعارضة المنضمة”، فقد بدأت قصيدتها بالانبطاح، فكيف ننتظر منها أن تكمل القصيدة بغير هذا المنوال؟
لقد سقط القناع منذ اللحظة الأولى، وبقيت الحقيقة عارية، تُقرع أجراس الخزي في آذان من باعوا ضمائرهم بثمن بخس.







