مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: العلاقات المصرية – السعودية بين التوتر والتكامل: نحو شراكة عربية جديدة في مرحلة ما بعد شرم الشيخ وأزمة غزة

تأتي هذه الورقة البحثية في سياقٍ أكاديمي يُعنى بتحليل التفاعلات الإقليمية من منظورٍ استراتيجي، بعيدًا عن الانفعالات والضجيج، في لحظةٍ تتقاطع فيها التحولات العالمية مع إعادة ترتيب موازين القوى في المنطقة العربية.

تسعى الورقة إلى فتح نقاشٍ علميٍّ رصينٍ حول مستقبل المنطقة ما بعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير ٢٠٢٥، وزيارته الرياض وشرم الشيخ، وما ترتّب عليهما من إعادة صياغةٍ للعلاقات العربية – العربية، في ظل أزمة غزة وما بعدها، وخصوصًا ما تشهده العلاقات بين مصر والسعودية من توترٍ يحتاج إلى مقاربةٍ واقعيةٍ وشجاعةٍ تُعيد التوازن إلى الدورين المركزيين للبلدين في الإقليم.ڤ

أولًا: خلفية عامة

منذ قيام المملكة العربية السعودية الحديثة على يد الملك عبد العزيز، وقيام الدولة المصرية الحديثة بمؤسساتها الوطنية، ظلّ البلدان يشكّلان جناحين أساسيين في الجسم العربي.

لم تكن العلاقة بين القاهرة والرياض يومًا علاقةً عابرة أو ظرفية، بل علاقةً تأسيسية في النظام العربي. ففي أوقات التفاهم بينهما قويت الأمة، وحين تباعدتا اختلّت الموازين.

شهد التاريخ العربي الحديث مراحل صعودٍ وهبوطٍ في هذه العلاقة، من التنسيق الكامل خلال حرب أكتوبر 1973 حين استخدم الملك فيصل سلاح النفط دعمًا لمصر، إلى لحظات توترٍ في ستينيات القرن الماضي بسبب حرب اليمن وصراع الزعامة.

ورغم تلك المنعطفات، بقيت القناعة راسخة بأن أي تصدّعٍ بين البلدين يفتح الباب لاختراقاتٍ إقليمية تُضعف الجبهة العربية.

ثانيًا: أثر مبادرة ترامب وإعادة هندسة المنطقة

أعادت “مبادرة ترامب” أو ما سُمّي بـ“صفقة القرن” رسم خريطة الشرق الأوسط بطريقةٍ قلبت الأولويات.

فبدلًا من تسويةٍ عادلةٍ للقضية الفلسطينية، فُرض منطق التطبيع المنفرد والمصالح الضيّقة.

أُعيد توزيع الأدوار داخل الإقليم بحيث أصبح النفوذ الأميركي – الإسرائيلي هو المهيمن، بينما تُهمَّشت القوى العربية التقليدية كالقاهرة والرياض.

استثمرت واشنطن التباينات بين الحلفاء العرب، وحوّلتها إلى أدوات ضغطٍ متبادلة، بينما أطلقت قوىً إقليمية غير عربية مشاريع نفوذٍ موازية.

هذا المشهد يفرض على مصر والسعودية مسؤوليةً مضاعفة لاستعادة زمام المبادرة العربية، لا كمنافسين، بل كشريكين في قيادة مرحلةٍ جديدةٍ من التوازن الإقليمي.

ثالثًا: الدبلوماسية الشعبية كقوة موازية

تؤكد التجارب التاريخية أن الشعوب قادرة على ترميم ما تتركه السياسات من شروخ.

فـ”الدبلوماسية الشعبية” ليست ترفًا بل ركيزةً في صناعة التفاهمات.

بعد ثورة يناير 2011، حين قررت المملكة سحب سفيرها من القاهرة، تحرّكت لجنة شعبية مصرية برئاسة الدكتور السيد البدوي والتقت الملك عبد الله في الرياض، فعادت المياه إلى مجاريها خلال أيام.

ذلك المثال يُثبت أن النوايا الصادقة والحوار الأهلي يمكن أن يحقّقا اختراقاتٍ تعجز عنها الدبلوماسية الرسمية في أجواء التوتر.

اليوم، ومع احتدام الأزمات الإقليمية، يمكن لتجربةٍ مشابهةٍ أن تُعيد الثقة، خصوصًا إذا تحوّلت إلى آليةٍ مؤسسيةٍ منظَّمة تضم شخصياتٍ من الطرفين.

رابعًا: نحو لجنة أهلية مشتركة

تقترح الورقة إنشاء لجنةٍ مصرية – سعودية شعبية – أهلية مشتركة، تضم رموزًا من الفكر والدين والاقتصاد والإعلام من البلدين، تكون مهمتها دراسة جذور الخلاف وإدارة حوارٍ مستدامٍ حول القضايا الثنائية والإقليمية.

ومن بين الأسماء المقترَحة رمزيًا:

من مصر: أحمد الطيب، عمرو موسى، مصطفى الفقي، وحيد عبد المجيد، محمد أنور السادات، السيد البدوي، علاء مبارك.

ومن السعودية: صالح بن عبد الله بن حميد، عبد العزيز الخضيري، عبد الرحمن الراشد، تركي الدخيل، أحمد القطان، محمد آل زلفة، ياسر الروبيان.

تجتمع اللجنة شهريًا بالتناوب بين القاهرة والرياض، وتعقد لقاءً ربع سنويًا موسعًا لتقييم ما تحقق ورفع تقريرٍ تشاوري إلى القيادتين.

هدفها ليس التفاوض بالنيابة عن الحكومات، بل بناء جسر ثقةٍ يسبق ويواكب أي تحركٍ رسمي.

خامسًا: الأبعاد الاقتصادية والإقليمية

تحتاج العلاقة إلى إعادة تعريف قاعدتها الاقتصادية على أساس “الاستثمار المشترك لا المساعدة المشروطة”.

إنشاء “مجلس شراكة اقتصادية” بين البلدين يمكن أن يشكّل إطارًا لتكامل مشاريع الطاقة والموانئ والسياحة الدينية والصناعات الصغيرة.

وفي البعد الإقليمي، يجب التعامل مع القوى الصديقة مثل تركيا وقطر بروح التعاون لا التنافس، فكلتاهما تحتفظ بعلاقاتٍ إيجابيةٍ ومتنامية مع القاهرة والرياض، ويمكن لجهودهما أن تسهم في نزع فتيل الأزمات الإقليمية عبر أدوار وساطةٍ ناجحة.

سادسًا: الدور الإعلامي والثقافي

الإعلام، حين يُحسن توجيه رسالته، يصبح جسرًا لا جدارًا.

توصي الورقة بإنشاء منتدى إعلامي مشترك يضم قياداتٍ تحريرية وإعلاميين من البلدين، يضع ميثاق شرفٍ يمنع التحريض المتبادل ويشجّع على إبراز المشتركات.

كما تُقترح مبادراتٌ ثقافية وفنية تُبرز وحدة المصير العربي عبر إنتاجٍ مشتركٍ لأفلامٍ ووثائقياتٍ ومسلسلاتٍ تاريخية تسلّط الضوء على فترات التضامن بين الشعبين.

سابعًا: دور القوى الكبرى

تعمل الولايات المتحدة اليوم وفق مبدأ “إدارة التناقضات” لا حلّها، وتستفيد من أي فجوةٍ عربيةٍ داخلية.

وأي تباعدٍ بين القاهرة والرياض يمنح قوىً أخرى فرصةً لتعزيز نفوذها على حساب القرار العربي المستقل.

لذا، من الضروري أن تُبلور مصر والسعودية رؤيةً مشتركةً تجاه ملفات البحر الأحمر والسودان وغزة واليمن، تُعلن فيها وحدة المقاربة والمصير، وتغلق الباب أمام الاستقطابات الدولية الحادّة.

ثامنًا: الخطوات العملية للمبادرة

  1. تشكيل اللجنة الأهلية المشتركة خلال شهرٍ واحدٍ من اعتماد المبادرة.
  2. بدء الاجتماعات الشهرية المنتظمة في القاهرة والرياض.
  3. عقد لقاءٍ ربع سنوي لتقييم المسار وصياغة التوصيات.
  4. إطلاق منصةٍ رقميةٍ رسمية للتواصل بين النخب الشابة.
  5. إنشاء صندوق تمويلٍ مشتركٍ لدعم المشاريع الثقافية والإعلامية.
  6. إعداد تقريرٍ سنوي يُرفع لوزارتي الخارجية والجامعة العربية.
  7. ضمان استقلال اللجنة بدعمٍ معنوي من القيادتين فقط

تاسعًا: الخاتمة

العلاقة بين مصر والسعودية ليست تفصيلًا في دفتر السياسة، بل فصلٌ في كتاب التاريخ العربي.

المنطقة تمرّ بمرحلة إعادة تشكّل، ولا يمكن لأحدٍ أن يحمي العرب سوى العرب أنفسهم.

المطلوب اليوم مبادرةٌ عاقلة، تُعيد صياغة الثقة وتُطفئ نيران التوجّس، وتستبدل لغة المجاملات بلغة المصالح المشتركة.

حين تتحدث القاهرة والرياض بصوتٍ واحد، يسمع العالم العربي نغمة الأمل لا صدى الخلاف.

هذه الورقة هي دعوةٌ إلى ذلك الصوت الواحد، وإلى الإيمان بأنّ الحوار لا الخلاف هو طريق المستقبل، وأنّ الشراكة بين جناحي الأمة ليست خيارًا بل قدرها المشترك

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى