د. أيمن نور يكتب : حين يصبح الصمت شكلاً آخر من الحرب

في جنوب لبنان، ما زال الدخان يتسلّل من بين حجارة البيوت، كأنه لا يريد أن يغادر الذاكرة.
عامٌ مضى على هدنةٍ وُقّعت بوساطةٍ أميركية، هدنةٍ كانت تُفترض أن تُنهي الحرب، لكنها لم تُنهِ الخوف، ولم تُعد الناس إلى بيوتهم. النساء هناك يقلن: “الحرب لم تنتهِ، بل غيّرت شكلها فقط”.
القانون الدولي يسمّي ما يحدث “انتهاكًا لحقّ الإنسان في الحياة الكريمة”، ونحن نسميه جريمة مستمرة، تُرتكب على مرأى الأمم، وتُغسَل ببياناتٍ باهتةٍ تصدر من وراء زجاجٍ مضادٍ للضمير.
كيف يمكن أن تُسمّى الهدنة هدنةً، إذا كانت الطائرات لا تزال تحوم فوق رؤوس الأمهات، وإذا كانت المدارس تُهدم بذرائع الأمن، والمشافي تُقصف بحجة الاشتباه؟
الأمم المتحدة تضع الأرقام، والبنك الدولي يحسب كلفة إعادة الإعمار بالمليارات، لكن لا أحد يحسب كلفة الألم، ولا حجم اليُتم في العيون الصغيرة التي اعتادت رؤية الحرب أكثر من الأفق.
المادة الثالثة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تنصّ على أن “لكلّ فرد الحقّ في الحياة والحرية والأمن على شخصه”، غير أن هذا النصّ تحوّل هناك إلى أمنياتٍ مكتوبةٍ على الجدران المهدّمة.
ما يحدث في جنوب لبنان ليس نزاعًا حدوديًا كما يُقال، بل استعمارٌ بوسائل جديدة، استعمارٌ يُدير المعركة من الجوّ، ويحتلّ الأرض من خلال الخوف، ويمنع الناس من بناء حياتهم لأن الخراب يُخيف أكثر من الاحتلال.
تلك هي “الإبادة البطيئة”، التي تُمارَس دون أن تُعلن، وتُغطّى بشعارات “الردع” و”الأمن”.
في كلّ امرأةٍ لبنانيةٍ تُمسك بيد طفلها الهارب من القصف، تتجسّد فكرة المقاومة الحقيقية: مقاومة للبقاء، مقاومة للحياة، مقاومة للحبّ في زمنٍ يقتل فيه العالم الإحساس.
فالحقّ في الحياة الكريمة ليس منّةً من أحد، بل هو صُلبُ العدالة، وجوهر القانون، ومرآة إنسانيتنا جميعًا.
ما لم يُدرك العالم أن الكرامة لا تُمنح بالقرارات، بل تُحمى بالمواقف، ستبقى الهدن مجرّد فواصل بين جولةٍ وجولةٍ من الموت.
سيبقى السلام شعارًا هشًّا فوق أطلالٍ لم تجفّ دماؤها بعد، وستبقى النساء في جنوب لبنان يُدافعن عن الحياة بأيديهن العارية، بينما يكتب الآخرون عن “الاستقرار” على الورق.