مقالات وآراء

حسن نافعة يكتب: ماذا بعد بلوغ الأمم المتحدة الثمانين؟

تحتفل الأمم المتحدة هذه الأيام بمرور 80 عاماً على تأسيسها. ولأن ميثاق هذه المنظمة العتيدة، والذي دخل حيز التنفيذ يوم 24 أكتوبر/ تشرين الأول 1945، ظلّ كما هو من دون تغيير، ولم تشهد نصوصه أي تعديلات جوهرية، فمن الطبيعي أن تظهر على واجهتها علامات شيخوخة تعكس عجزاً فاضحاً في حرص المجتمع الدولي على العناية بها أو تزويدها بأبسط الأدوات والآليات التي تساعدها على مواكبة ما طرأ من تطوّرات هائلة على بنية القوى وموازينها في النظام الدولي طوال هذه الفترة. وفي تقدير كاتب هذه السطور أن من صاغوا ميثاق هذه المنظمة ارتكبوا نوعين من الأخطاء الجسام.

الأول: إقامة صرح منظومة الأمن الجماعي كلّه على فرضية مفادها بأن التحالف الذي تحقّق بين الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية سيستمر بعدها، بدليل اشتراط تحقّق الإجماع بين الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، لتمكين الأخير من القيام بوظائفه العديدة، خصوصاً ما يتعلّق منها بالمحافظة على السلم والأمن الدوليين، فسرعان ما ثبت خطأ هذه الفرضية بعد أقل من أربع سنوات، وتحديداً عند تأسيس حلف شمال الأطلسي (ناتو) عام 1949، فقد جسّد قيام هذا الحلف انقسام النظام العالمي رسمياً إلى معسكرين متصارعين، أحدهما رأسمالي تقوده الولايات المتحدة والآخر اشتراكي يقوده الاتحاد السوفييتي. ولأن تشغيل منظومة الأمن الجماعي، كما وردت في الميثاق، لم يكن ممكناً من دون إجماع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، فقد كان من الطبيعي أن يؤدّي هذا التطور غير المتوقع إلى إصابة مجلس الأمن بما يشبه الشلل والعجز عن اتخاذ القرارات المطلوبة.

الثاني: عدم التحسّب لما قد يطرأ على موازين القوى في المجتمع الدولي من تطوّرات، فقد افترض واضعو الميثاق أن الدول الكبرى المتحالفة والمنتصرة في الحرب العالمية الثانية ستظلّ الأقوى والأكثر تأثيراً على الساحة العالمية. وبالتالي، لن تستطيع دول أخرى من خارج معسكر الحلفاء دخول حلبة المنافسة على موقع الصدارة في النظام الدولي، أو التطلع إلى الحصول على مقاعد دائمة في مجلس الأمن. غير أنه سرعان ما تبيّن خطأ هذا الافتراض أيضاً. إذ يكفي أن نُلقي نظرةً سريعةً على الخريطة الحالية لموازين القوى الدولية، كي ندرك بوضوح أنها تختلف تماماً عن الخريطة التي أسفرت عنها الحرب العالمية الثانية. فمن ناحيةٍ، بلغ عدد الدول الأعضاء في الأمم المتحدة حالياً 193، بينما لم يتجاوز عددها عند التأسيس 51. ومن ناحية أخرى، أصبحت دول مهزومة، مثل ألمانيا واليابان، في مصافّ القوى الاقتصادية الكبرى في النظام الدولي، كما أصبحت دول أخرى تنتمي للعالم الثالث، مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، تتمتع بثقل إقليمي كبير، وباتت تتطلّع جميعها للحصول على مقاعد دائمة في مجلس الأمن الذي لم يعد تشكيله يعبّر عن موازين القوى الحقيقية في النظام الدولي الحالي.

أهدرت الولايات المتحدة فرصاً ثمينة لدفع الأمم المتحدة نحو القيام بإصلاحات جوهرية تعيد إحياء نظام الأمن الجماعي.


يتطلب تصحيح الخطأ الأول تغييراً في الأغلبية المطلوبة لاتخاذ القرار في مجلس الأمن، كي لا يكون في مقدور دولة واحدة من بين الدول دائمة العضوية فيه شل حركة المجلس والحيلولة من دون تمكينه من أداء وظائفه على الوجه الأكمل، وأن تصحيح الخطأ الثاني يتطلب توسيع نطاق العضوية في هذا المجلس، كي يصبح أصدق تمثيلاً لخريطة القوى الحالية وموازينها في المجتمع الدولي، وكلاهما يحتاجان إلى إدخال تعديلات جوهرية على الميثاق نفسه، وهو ما يستحيل القيام به إلا عند ضمان موافقة جميع الدول دائمة العضوية التعديلات المطلوبة. وهنا المعضلة الكبرى التي كبّلت حركة الأمم المتحدة، وحالت دون تمكينها من مواكبة التحولات التي طرأت على النظام الدولي. صحيحٌ أن في مقدور أغلبية الدول الأعضاء في الأمم المتحدة عقد مؤتمر لتعديل الميثاق، غير أن دخول التعديلات المقترحة حيز التنفيذ لا يمكن أن يتم إلا بعد تصديق الدول الخمس دائمة العضوية عليها، ما يعني أن بمقدور أي منها أن تحول بإرادة منفردة منها دون إصلاح الأمم المتحدة، حتى لو وافقت جميع الدول الأخرى على الإصلاحات المقترحة! ولأن الأمم المتحدة وجدت نفسها مضطرّة لمواصلة المسيرة من دون إجراء الإصلاحات المرجوّة، فقد توقفت فاعلية نظام الأمن الجماعي المنصوص عليه في ميثاقها، والذي زوّد مجلس الأمن نظرياً بسلطات هائلة تمكّنه من ردع المعتدي ومعاقبته على ما يحدث من تحوّلات في بنية النظام الدولي، وبالتالي، كان من الطبيعي أن تتباين هذه الفاعلية، وأن تختلف من مرحلة إلى أخرى. ففي مرحلة النظام الدولي ثنائي القطبية، لم يكن بمقدور مجلس الأمن أن يتدخّل بفاعلية إلا في الأزمات التي تقع خارج نطاق مناطق النفوذ التابعة للقوتين العظميين، شريطة ألا تكون أي منهما طرفاً مباشراً في هذه الأزمات، وهو ما يفسّر سبب عجز مجلس الأمن في خمسينيات القرن الماضي وستينياته عن لعب أي دور في الأزمة الفيتنامية التي كانت الولايات المتحدة طرفاً مباشراً فيها، أو في الأزمة الأفغانية التي اندلعت في السبعينيات، وكان الاتحاد السوفييتي طرفاً مباشراً فيها، كما يفسّر، في الوقت نفسه، لماذا نجح مجلس الأمن في التدخّل بقدر لا بأس به من الفاعلية في أزمة الكونغو وغيرها من أزماتٍ مشابهةٍ اندلعت في مرحلة الحرب الباردة. أما في مرحلة النظام الدولي أحادي القطبية، فقد سعت الولايات المتحدة بكل ما تملك من وسائل لإخضاع مجلس الأمن، وتحويله إلى أداة طيّعة في يدها، وهو ما ظهر بوضوح إبّان أزمات كثيرة اندلعت خلال التسعينيات، مثل أزمتي لوكربي وكوسوفو. الحالة الوحيدة التي تجلت فيها قدرة مجلس الأمن على تطبيق نظام الأمن الجماعي بحذافيره، وكما ورد في الميثاق، كانت إبّان أزمة احتلال الكويت في أغسطس/ آب 1990، خصوصاً إبّان مرحلة الإدارة السياسية لهذه الأزمة، وليس مرحلة الحسم العسكري. ويعود السبب في هذه الفاعلية الاستثنائية في تاريخ الأمم المتحدة كله إلى أنها اندلعت في وقت كان النظام الدولي يمر فيه بمرحلة انتقالية جسّدها صعود القوة الأميركية وبداية تصدّع القوة السوفييتية وانهيارها، لكن روسيا حين استعادت بعض عافيتها وأصبح بمقدورها تحدّي الولايات المتحدة في مجلس الأمن، بدأ نظام الأمن الجماعي يعود إلى العمل وفق نمط أقرب إلى النمط الذي ساد في مرحلة النظام الدولي ثنائي القطبية، ما يفسّر لماذا أصيب مجلس الأمن بما يشبه الشلل التام مرّة أخرى، بدليل عدم تمكّنه من التدخل على أي نحو لوقف الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا منذ بداية عام 2022، أو لوقف حرب الإبادة الجماعية التي قرّرت إسرائيل شنها على الشعب الفلسطيني عقب “طوفان الأقصى”، واستمرّت عامين متتاليين.

والواقع أن في وسع كل متأمل لمسيرة الأمم المتحدة أن يدرك أن الولايات المتحدة أهدرت فرصاً ثمينة لدفع الأمم المتحدة نحو القيام بإصلاحات جوهرية تعيد إحياء نظام الأمن الجماعي، عبر تزويده بالآليات التي تمكّنه فعلاً من المحافظة على السلم والأمن الدوليين، وتساعد الهيكل التنظيمي للأمم المتحدة ككل، والذي أصيب إبّان مرحلة الحرب الباردة بعديدٍ من مظاهر الترهل البيروقراطي والتعقيدات الإدارية التي أدّت إلى تضارب الاختصاصات وإهدار الموارد، على التخلّص مما أصابه من أمراض. وقد لاحت أهم هذه الفرص إبّان “حرب تحرير الكويت” وعقبها مباشرة. غير أن حرص الإدارة الأميركية في ذلك الوقت على إدارة الأزمة الكويتية للتعجيل بطريقةٍ تؤدّي إلى انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان قد بدأ يتصدّع بالفعل. وفي تقدير كاتب هذه السطور أن العلاقة الخاصة، والشاذّة في الوقت نفسه، التي تربط بين إسرائيل والولايات المتحدة كانت العامل الرئيسي في تأجيج كراهية الولايات المتحدّة للأمم المتحدة وتعميقها.

افترض واضعو ميثاق الأمم المتحدة أن الدول الكبرى المتحالفة والمنتصرة في الحرب العالمية الثانية ستظلّ الأقوى والأكثر تأثيراً

كانت هذه الكراهية قد بدأت تأخذ منحى متسارع التصعيد في أعقاب حرب أكتوبر (1973) خصوصاً حين تمكن العالم العربي، والذي كان قد ظهر قوياً ومتماسكاً في هذه الحرب على نحو غير مسبوق في تاريخه، من استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، يدين الصهيونية ويعتبرها من أشكال العنصرية (القرار 3379 لعام 1975). فقد أشعل هذا القرار ثورة غضب كبرى في جميع الأوساط الصهيونية المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، ومن ثم راحت تحشد قواها للضغط على مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة لاتخاذ إجراءاتٍ عقابيةٍ صارمة ضد الأمم المتحدة، وهو ما حدث. فقد بدأت الولايات المتحدة تمارس منذ ذلك الحين ضغوطاً لم تنقطع على كل منظومة الأمم المتحدة، وليس على منظّمة الأمم المتحدة، فانسحبت من عدّة منظّمات متخصّصة، كاليونسكو ومنظّمة الصحة العالمية وغيرهما، وامتنعت عن الوفاء بجزء كبير من حصّتها المالية في ميزانية الأمم المتحدة، ما أصاب عديداً من برامجها وأنشطتها المختلفة بكثير من الارتباك والتخبّط.

لا يتسع المقام هنا لاستعراض تفاصيل الإجراءات الانتقامية التي اتخذتها الإدارات الأميركية المتعاقبة ضد الأمم المتحدة، ووصلت إلى ذروتها مع دخول ترامب البيت الأبيض، فلإرضاء كيان يشنّ على الشعب الفلسطيني حرب تجويع وإبادة جماعية متواصلة منذ عامين، وصدرت من المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال ضد رئيس وزرائه الحالي ووزير دفاعه السابق، ودمّر المدارس والمستشفيات، بل واغتال أكثر من 400 من موظفي وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، في سابقة تاريخية لم تحدث من قبل… ذهب ترامب، في إجراءاته العقابية، بعيداً إلى حد الإقدام على منع التمويل عن الوكالة الأممية، وتهديد قضاة محكمتي الجنايات والعدل الدوليتين.

حين تصل المنظمة الأممية المسؤولة عن حماية السلم والأمن في العالم إلى سن الثمانين، في وقت يبدو فيه رئيس أقوى دولة مهموماً ليس بالبحث عن وسيلة لتجنيب العالم مصادر التهديد، ولكن بالبحث عن وسيلة لحماية أكثر الدول وحشية وإجراماً وللعفو عن أكثر مسؤوليها مروقاً وإسفافاً، فمن الطبيعي أن تشعر بالقلق، وأن تدرك أن أيامها باتت معدودة. وحين يدّعي ترامب أنه رسول سلام، وأن مساعيه على هذا الصعيد تؤهله للفوز بجائزة نوبل للسلام، ثم يسارع نتنياهو، المطلوب للمثول أمام العدالة الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بترشيح ترامب رسمياً للحصول على هذه الجائزة الرفيعة، فمن الطبيعي أن يشعر المرء بأن العالم الذي يعيش فيه لم يعد قابلاً للفهم وربما أصيب بالجنون!

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى