
من يتأمل المشهد السياسي المصري خلال السنوات الأخيرة،
يلحظ ظاهرة لافتة في سلوك بعض النخب المدنية وهي الميل إلى ممارسة نوع من (التكفير السياسي) تجاه كل من يقترب من السلطة أو يتعامل معها أو حتى يحاول فتح قنوات للحوار معها. وكأن المعارضة لا تكتمل إلا بإعلان القطيعة المطلقة، وكأن الشرعية الأخلاقية والسياسية تُقاس بقدر ما تبديه من عداء، لا بما تحققه من تأثير.
هذا المنطق الذي ترسّخ في أوساط محددة من التيار المدني،
يبدو في ظاهره موقفًا مبدئيًا صارمًا لكنه في جوهره يكرّس العجز والعزلة ويحرم القوى المدنية من أهم أدوات الفعل السياسي وهو: القدرة على الاشتباك الإيجابي مع الواقع.
لقد تحولت بعض القوى المدنية من قوى إصلاحٍ ونقدٍ وتنوير،
إلى جماعاتٍ تضع السلطة في مقام الشرّ المطلق وتجعل من أي اقتراب منها خطيئةً سياسية، ومن أي حوار معها خيانةً وطنية. وهكذا أصبحت السياسة تُمارس بمنطق ديني مغلق: نحن المؤمنون بالديمقراطية والحقوق، وهم الكفار بها. وبدلًا من أن نناقش الأفكار والبرامج والنتائج، بتنا نحاكم النوايا ونفتش في الضمائر.
لكن السياسة — كما علّمتنا كل التجارب — لا تُدار بالمنطق الأخلاقي المجرّد،
بل بميزان المصالح العامة والممكن والمتاح. ففي البلدان التي انتقلت من السلطوية إلى الإصلاح لم يكن الطريق ثوريًا دائمًا، بل تفاوضيًا وتراكميًا يقوم على فن إدارة المساحات الرمادية لا حرقها.
السلطة في مصر — بكل ما لها وما عليها — ليست كيانًا غريبًا عن المجتمع،
بل هي انعكاس له بضعفه وقوته، بتركيبته وموروثه. ومن ثم فإن مقاطعتها المطلقة ليست طريقًا إلى التغيير، بل إلى مزيدٍ من الانفصال عن الواقع. فالمجتمعات لا تُدار بالرفض فقط، بل بالمشاركة والضغط من الداخل وخلق التوازن الممكن بين النقد والتعاون.
ولعل أخطر ما في منطق “تكفير السلطة”،
أنه يستنسخ الاستبداد ذاته من الجهة المقابلة. فكما تحتكر السلطة الحقيقة وتجرّم النقد، تحتكر بعض القوى المدنية بدورها شرعية المعارضة وتجرّم الاختلاف داخل صفوفها. كلاهما يريد أن يكون الصوت الوحيد المسموع، وكلاهما يختزل الوطن في رؤيته الخاصة له.
إن العمل العام لا يُختصر في الصدام ولا في الولاء،
بل في المسافة الدقيقة بينهما؛ تلك المسافة التي يُمارَس فيها الفعل السياسي الحقيقي: ضغطٌ حين يستوجب الأمر وتعاونٌ حين يخدم المصلحة العامة وحوارٌ دائم لا يتوقف. فليس كل من يعمل داخل مؤسسات الدولة متواطئًا، كما أن ليس كل من يعارضها مخلصًا بالضرورة.
من يقرأ تاريخ الحركة الوطنية المصرية،
سيجد أن الإنجازات الكبرى لم تتحقق بالصدام المطلق، بل بالتفاعل الخلاق بين المجتمع والدولة. سعد زغلول لم يهدم الدولة بل فاوضها، ومصطفى النحاس لم يخاصم مؤسساتها بل حاول إصلاحها من الداخل. فهل فقدنا هذه البوصلة؟ وهل صار الحوار جريمة؟
إن ما تحتاجه القوى المدنية اليوم،
ليس مزيدًا من الشعارات عن “النقاء الثوري”، بل شجاعة المراجعة والاعتراف بالأخطاء. فالتاريخ لا يرحم التيارات التي اختارت “الانسحاب الأخلاقي” من الواقع وفضّلت البكاء على المبادئ بدل تحويلها إلى فعل. لا أحد يغيّر من خارج اللعبة. لا أحد يُصلح ما لا يلمسه.
ولنكن صرحاء،
لا توجد سلطة بلا أخطاء، ولا توجد معارضة بلا حساب. لكن الخط الفاصل بينهما لا يجب أن يكون جدارًا عازلًا، بل مساحة تفاعل عقلاني. من حق القوى المدنية أن تنتقد وتعارض وتكشف الانحراف، لكن ليس من حقها أن تصادر على الآخرين خياراتهم أو تحاكم نواياهم. التخوين لا يبني وطنًا، والمزايدة لا تصنع إصلاحًا.
إن مصر بتاريخها وتركيبتها وتعقيداتها،
تحتاج إلى قوى مدنية عاقلة لا غاضبة، ناقدة لا ناقمة، منخرطة لا منسحبة. تحتاج إلى من يمدّ الجسور لا من يحرقها، وإلى من يرى في السلطة خصمًا يُراد إصلاحه، لا عدوًا يُراد إفناؤه.
ربما آن الأوان لأن ندرك،
أن الوطنية ليست موقعًا جغرافيًا على خريطة الصراع، بل موقفًا فكريًا وأخلاقيًا منضبطًا بالمسؤولية. وأن المعيار الحقيقي ليس مدى بعدك عن السلطة، بل مدى قربك من الحقيقة والمصلحة العامة.
فمن يتعامل مع السلطة بعقلٍ ناقد لا بقلبٍ حاقد،
قد ينجح في انتزاع مساحاتٍ من الإصلاح، أما من يختار القطيعة والرفض المطلق، فلن يغيّر إلا موقعه على هامش التاريخ.







