
بينما كان الظلام يلفّ قرية الجلف في بني مزار،
لم تكن مصابيح العدالة هي التي أضاءت ذلك المشهد، بل كانت نيران الطائفية هي التي التهمت آخر بقايا المواطنة، لم تكن تلك “جلسة صلح” كما يحلو للبعض تسميتها، بل كانت محكمة ظلامية أنشأها التعصب، حيث جلس رجال يلبسون ثياب العرف والقبلية ليحكموا على مواطنين بمجرد انتمائهم الديني، إن ما حدث لم يكن تسوية، بل استسلام مذلّ فرضه التهديد والترويع، حيث أصبحت الغرامة المالية والتهجير ثمنًا لوجود المختلف في وطن يفترض أنه للجميع.
لقد تجاوز الأمر كونه حادثًا محليًا
ليصبح علامة على تآكل فاضح لسيادة القانون، ففي قرى مصر، لم تعد الدولة بوزاراتها ومحاكمها هي السلطة الوحيدة، بل نشأت سلطات موازية تمارس القضاء دون سند قانوني، وتفرض عقوبات دون رادع، إنها “جمهورية العرف” التي تقوم على منطق القبيلة، حيث تتحول الأخطاء الفردية إلى عقوبات جماعية، والمواطنون إلى رهائن لانتماءاتهم.
إن الدستور المصري الذي ينص على المساواة الكاملة
بين المواطنين أمام القانون لم يكن حاضرًا في تلك الجلسة العرفية، فكيف لمواطنين مصريين أن يُحاكموا خارج أروقة القضاء؟ وكيف تُفرض عليهم عقوبات التهجير والغرامات دون سند قانوني؟ إنها مهزلة تذكرنا بعصور ما قبل الدولة المدنية، حيث كان الحكم للقوي والغالب.
والأخطر من الحادث نفسه هو تكرار هذه المشاهد
في محافظة المنيا وغيرها، فكل حادث طائفي جديد يُعالج بمسكنات مؤقتة، بينما يظل الجرح نازفًا في جسد الوطن، إن التسامح مع هذه الممارسات يشجع على تحويل الاستثناء إلى قاعدة، والعفوي إلى منهج، وهو ما يفتح الباب أمام تحويل أي شائعة إلى عقاب جماعي، وأي خلاف فردي إلى صراع طائفي.
إن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة
أين مؤسسات الدولة من هذه الجلسات العرفية؟ ولماذا تسمح بتأسيس سلطات موازية تمارس القضاء مكانها؟ إن الصمت على هذه التجاوزات ليس حيادًا، بل هو تفريط في سيادة الدولة وهيبة القانون، فالدولة التي تسمح بوجود سلطات موازية تفقد شرعيتها شيئًا فشيئًا، وتتحول إلى شبح عاجز عن حماية مواطنيه.
إن ما حدث في الجلف يمثل اختبارًا حقيقيًا
لمصداقية الدولة المدنية في مصر، فإما أن تتحرك مؤسسات الدولة بكل حزم لإعادة هيبة القانون، وإما أن نعترف بأننا نعيش في دولة ذات سيادة منقوصة، إن التحرك العاجل لمحاسبة كل من شارك في هذه الانتهاكات ليس خيارًا، بل هو واجب دستوري وأخلاقي.
أما السؤال الأكثر إيلامًا فهو
هل أصبحت الفتنة الطائفية أداة في يد البعض؟ هل تُترك جمرة الطائفية تحت الرماد لاستخدامها عند الحاجة؟ هذا سؤال خطير، لكنه يفرض نفسه في ظل تكرار هذه الأحداث دون حل جذري، فالدولة الحقيقية لا يمكن أن تبنى على إدارة الصراعات، بل على إنهائها، لا على احتواء الأزمات، بل على منعها.
إن مستقبل مصر كدولة مدنية يتوقف
على قدرتها على فرض قانون واحد على جميع مواطنيها، فإما أن نكون جميعًا أمام القانون سواء، وإما أن نعترف بأننا نعيش في غابة يحكمها قانون الأقوى، إن دروس التاريخ تُظهر أن الدول التي تتهاون في حماية مواطنيها تتآكل من الداخل قبل أن تنهار من الخارج.







