مقالات وآراء

معصوم مرزوق يكتب : مهمة إنتحارية في أوغندا

تعددت لقاءاتي مع الرئيس الأوغندي موسيفيني، وتدريجيا أمكن بناء قدر كبير من الثقة ساعدني في تيسير آداء مهمتي كسفير في أوغندا ..

وكانت مديرة مكتبه تسارع في الرد بالإيجاب عند كل طلب مقابلة معه ، وكانت سيدة غاية اللطف والرقة ، تطلب مني فقط رأس موضوع اللقاء بغض النظر عن محتواه ..

وبعد  المقابلة التي ناقشت فيها معه مشكلة الطلب الذي تقدم به أحد نواب البرلمان الأوغندي، انتقل الرئيس إلي شمال أوغندا كي يتولى بنفسه قتال المتمردين من جيش الرب .

وكنت ارغب في مقابلته لأمر هام ، واتصلت بمديرة مكتبه كي أسأل عن تاريخ عودته، فقالت لي أن الفترة قد تطول في الشمال، لذلك طلبت مقابلة نائب الرئيس الذي كان في العاصمة، وكنت أيضا احتفظ معه بعلاقات طيبة وكان يدعوني إلي مزرعته .

وقبل أن يتم تحديد الموعد مع نائب الرئيس، اتصلت بي مديرة مكتب الرئيس لتقول لي أن الرئيس حدد اليوم التالي لمقابلتي ، وانه سيتم توفير وسائل إنتقال مريحة من كمبالا إلي أقصي شمال أوغندا حيث تدور رحي حرب عصابات ضارية  ..

وكانت الترتيبات عبارة عن طائرة قديمة متهالكة بمحركين يقودها طيار روسي ضخم الجثة، ويكاد مقعدي في الطائرة أن يلتصق بكابينة القيادة ، ولا فاصل هناك ، وكنت أري كل شئ من النافذة الأمامية في قمرة القيادة ..

كان الكابتن الروسي لطيفا وابن نكته ، واظنه كان يشرب فودكا طول الوقت من زجاجة حشرها جوار مقعدة ، قبل الإقلاع قال مقهقها بإنجليزية ثقيلة: ” أن هذه الطائرة من مخلفات الحرب العالمية الأولي ، تم إدخال بعض التعديلات عليها في أوكرانيا “..

كانت الأمطار تهطل بشدة والسماء ممتلئة بالغيوم الكثيفة ، والطائرة تتراقص ذات اليمين وذات اليسار ، وتهبط فجأة ثم يرفعها وهو يزعق لاهثا ، وكأنها ريشة في مهب الرياح ، وعندما لاحظ قلقي وتشبثي بالمقعد ، التفت ناحيتي بنصف جسمه وهو يمد لي زجاجة الفودكا قائلا :” لا تخف .. لقد سقطت هذه الطائرة مرتين ، ونجحت في إنقاذها . تمتع بالرحلة .. اشرب ” .

ورغم أنني بحكم خبرتي السابقة كمقاتل ،كنت قد ركبت أسوأ طائرات النقل الروسية انتينوف ، ومررت بحوادث عديدة أثناء التدريب والقفز في الإبرار الجوي من طائرات الهليكوبتر مي 8 ، إلا أنني أعترف أن الرعب الذي تملك مني علي مدي ساعة ونصف طيران ( أو شقلبة !) لم يسبق لي أن شعرت به ..

وكان النزول بالطائرة في حد ذاته مغامرة بشعة، كانت مقدمة الطائرة تتسارع بشكل عامودي إلي الممر البدائى ، بينما الطيار يلعن ويسب ذلك الممر البائس ، وكنت أري كل شئ في مواجهتي ، الأرض تقترب بسرعة ، وأننا علي وشك الإرتطام ، فأغمضت عيني وظللت أردد الشهادتين بلا توقف ..حتي اصطدمت عجلات الطائرة بشدة ، وارتطمت أنا بعمود إلي جواري ، ووجدت غبارا كثيفا يحيط بنا ويخفي ممر الهبوط ، حتي فرمل الكابتن فجأة ، فارتجت الطائرة وتوقفت ، وانقشع الغبار تدريجيا ، لأجد أنه أوقف الطائرة بالضبط علي الحافة الأخيرة للممر ..

نزلت محطما ، مرهقا ، وسألت بعض الضباط والجنود عن دورة مياه أحتاجها بشكل عاجل، فتبادلوا النظرات فيما بينهم ، وقال لي أحدهم أخيرا أنني أستطيع أن أجد دورة مياه ميدانية في القاعدة حيث سألتقي بالرئيس ، وعندما سألت عن السيارة التي ستقلني إلي هناك ، أشاروا إلي طائرة هليكوبتر مي 8 رمادية اللون تقبع في ركن بعيد .

فهمت أنها الطائرة الخاصة بالرئيس، وأنه ارسلها تكريما لي (نفس هذه الطائرة هي التي سقطت فيما بعد بقائد الحركة الشعبية في جنوب السودان ، عندما تفضل الرئيس موسيفيني بتوفيرها له كي يعود بها إلي جوبا ، فاصطدمت بجبل ومات كل من كانوا بها ، وقد ترددت حينذاك شائعات كثيرة حول عمل تخريبي كان وراء تحطمها ) ..

كانت الطائرة الهيلوكوبتر ارحم كثيرا من طائرة النقل ، وكانت المسافة بالطبع أقصر ، وقد لاحظت أن فرشها الداخلي متواضع وليس به رياش وأبهة طائرات الرئاسة ،..

عندما دخلت أخيرا لمقابلة الرئيس ، كانت بذلتي قد تشربت ترابا ومطرا ، وتشعث شعري ، وأصبحت في هيئة غير دبلوماسية بالمرة ، وكان الرئيس في بذلة كاكية عسكرية بسيطة ، متألقا ومنتعشا ويبدو في حالة معنوية عالية ، وينتعل صندل في قدمه ..

رحب بي بحرارة وهو يبتسم مندهشا من هيئتي ، وبعد أن جلسنا ، سألني بإهتمام عن سبب طلب المقابلة ، فنظرت إليه لبرهة صامتا وانا احاول أن أتذكر الموضوع !..

قهقه الرجل متباسطا ، واضطررت أن احكي له عن مغامرة الطيران المرعبة ، فكان يضحك هازا رأسه معلقا بأن الدبلوماسيين ناعمين منعمين soft & spoiled ، ولم يكن من المناسب أن احكي له تاريخي الشخصي كأحد مقاتلي الصاعقة السابقين ..

بالطبع ، لن يكون بمقدوري الإفصاح عن محتويات الحديث لأسباب مهنية ، ولكن أستطيع أن أذكر أننى رجوت الرئيس أن أعود عن طريق البر ، وهو يضيق عينيه مندهشا لأن ذلك سيأخذ وقتا طويلا ، فضلا عن أنني قد اجد ” جوزيف كوني “* ينتظرني خلف أي شجرة ويذبحني ..

علقت بأنني في كلتا الحالتين مهدد بالموت ، فإذا كان في السماء فالفرصة للإفلات منعدمة ، ولكن علي البر يمكنني أن استغل خبرتي الدبلوماسية في التفاوض مع ” كوني ” ..

فضحك مرة أخري وادمعت عيناه من فرط الضحك ، ووافق علي أن يتم توفير سيارة لي تتولي إعادتي إلي كمبالا ، وقد تفضل مشكورا بتوفير سيارتين مدرعتين لحمايتي حتي خرجت من دائرة الخطر …

وكانت تلك الرحلة أيضا لها حكاية ، ولكنها أقل تشويقا وإثارة من رحلة الذهاب.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى