مقالات وآراء

د.تامر المغازي يكتب: عندما ترفع الستارة على المسرح السياسي الفن في خدمة السلطة في مصر منذ 1952

لم تكن خشبة المسرح أو شاشة السينما في مصر مجرد وسيلة للترفيه، بل كانت دائماً مرآة عاكسة لتحولات المجتمع وهمومه، وأحياناً أداة طيعة في يد السلطة لترسيخ روايتها وصياغة الوعي الجمعي.

منذ ثورة 23 يوليو 1952، تشابك الفن مع السياسة في علاقة معقدة، تارة تكون حميمة وتارة أخرى تكون إشكالية، مما أثر بشكل عميق على المشهد الثقافي ومسيرة الوطن.

وبدأ العصر الذهبي لاستخدام الفن في خدمة “الرسالة الوطنية” (1952 – 1970)

في أعقاب الثورة، أدرك نظام جمال عبد الناصر القوة الهائلة للفن في بناء الدولة الحديثة وتعبئة الجماهير.

تم تأميم المسرح والسينما وإنشاء مؤسسات الدولة الثقافية مثل وزارة الثقافة والمسرح القومي.

خلال هذه الفترة، أنتجت أعمال فنية خالدة مجّدت قيم الزراعة والتصنيع والعدالة الاجتماعية، ووجهت نقداً لاذعاً للإقطاع والرأسمالية المستغِلة.

أفلام مثل “الأيدي الناعمة” ومسرحيات مثل “مدرسة المشاغبين” (برغم ظهورها لاحقاً) في أحد قراءاتها، كانت تجسيداً لصراع القيم الجديدة مع القديمة.

لقد نجحت الدولة في توظيف نجوم كبار مثل فريد شوقي وعماد حمدي وشادية في تقديم رؤيتها.

كان الارتباط إيجابياً إلى حد كبير، حيث ساهم الفن في بناء هوية وطنية وتماسك اجتماعي، لكنه أيضاً كان بداية لمرحلة “توجيه” الفن ووضعه في قالب أيديولوجي محدد، مما حد من حرية الإبداع في التعبير عن آراء معارضة.

وجاء انعطافة السادات من الوطنية إلى الانفتاح والانبطاح للنموذج الأمريكي

مع قدوم أنور السادات وتبني سياسة الانفتاح الاقتصادي، تحولت بوصلة الفن.

لم تعد “الرسالة” اشتراكية، بل أصبحت تمجد رجال الأعمال الجدد وقيم الاستهلاك.

ظهرت أفلام انتقدت مرحلة عبد الناصر (مثل بعض مشاهد في أفلام عادل إمام)، بينما ركزت أخرى على الفوارق الطبقية الصارخة التي خلقها الانفتاح.

هنا، بدأ الارتباط يأخذ منحى أكثر سلبية، حيث تحول الفن من أداة لبناء الوطن إلى أداة لتبرير سياسات اقتصادية أثرت سلباً على الطبقة الوسطى والفقيرة.

وفي عصر مبارك كان الترفيه كأفيون للشعب والهروب من المواجهة

امتدت حقبة حسني مبارك ثلاثة عقود، شهدت فيها العلاقة بين الفن والسياسة تدهوراً ملحوظاً.

مع تصاعد المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فضّلت السلطة فن “اللا سياسة”.

انتشرت الكوميديا الخفيفة والأفلام الرومانسية والغنائية التي تقدم الهروب من الواقع بدلاً من مناقشته.

تم تهميش الفن الجاد الذي ينتقد الفساد أو يستعرض هموم المواطن، بينما تمت مكافأة الفنانين الذين التزموا بهذا الخط.

بلغت الذروة في فضائح هذا الارتباط عندما أصبح بعض الفنانين وجوهاً إعلانية لنظام فاسد، يظهرون في المؤتمرات والاحتفالات الرسمية مغلفين بالشرعية التي يمنحهم إياها حب الجمهور، بينما كانوا في الحقيقة يلمعون صورة نظام يتجه نحو الانهيار.

لقد سحب البساط من تحت دور الفن النقدي، وحوله إلى أداة للتلهية.

ما بعد 2011: من الانقسام إلى “التوظيف المباشر”

بعد ثورة 25 يناير، انقسم الفنانون كما انقسم الشعب.

البعض انحاز للثورة وغنّى لها، والبعض الآخر وقف في صف النظام السابق.

هذه الفترة كشفت حقيقة أن الفن لم يكن محايداً أبداً.

ومع صعود عبد الفتاح السيسي، دخلت العلاقة مرحلة جديدة هي الأكثر إثارة للجدل، حيث أصبح “توظيف” الفن مباشراً وصريحاً.

فضيحة “التمثيل في البرلمان”: تزييف الوعي وإضفاء الشرعية الشعبوية

توجت هذه المرحلة بما يمكن وصفه بإحدى أكبر فضائح الارتباط بين الفن والسياسة، وهي تعيين عدد من الفنانين في مجلس الشيوخ عام 2020 و2025، وعلى رأسهم الممثل ياسر جلال وآخرين.

لم تكن القضية في تعيين فنانين – فالفنان مواطن له حقوقه – ولكن السياق والدلالات كانتا كارثيتين:

  1. استغلال الشعبية: النظام يدرك جيداً الحب الجماهيري لهؤلاء الفنانين، فيستخدمه لكسب تعاطف قطاعات عريضة من الشعب لا تنخرط في التفاصيل السياسية، فتجدها تصوت لـ “عصمت عبد المجيد” أو “يوسف فوزي” (شخصيات ياسر جلال الشهيرة) وليس لياسر جلال السياسي.
  2. تلميع الصورة: يهدف تعيينهم إلى إضفاء طابع “ديمقراطي” و”تمثيلي” على مؤسسة تشريعية يُنتقد دوماً على ضعف تمثيلها الحقيقي وتأثيرها الفعلي.
  3. وجود وجوه محبوبة يعطي انطباعاً زائفاً بالانفتاح والتعددية.
  4. تفريغ دور النائب: يرسل وجود ممثلين – معظمهم بلا خلفية سياسية أو قانونية أو اقتصادية – رسالة مفادها أن دور المجلس هو “تمثيل” (بالمعنى الفني للكلمة) وليس تشريعاً ورقابة.

هو دور استعراضي لتبرير قرارات تُتخذ في مكان آخر.

  1. إسكات الأصوات الناقدة: بدمج هؤلاء الفنانين في مؤسسة النظام، يتم تحييدهم كأصوات فنية مستقلة محتملة.

فكيف لفنان يعينه الرئيس في مجلس الشيوخ أن يقدم عملاً فنياً ناقداً للسياسات الرسمية؟ لقد تم شراء صمتهم بمنصب شرفي.

الخسارة الكبرى هي الارتباط العضوي بين الفن والسياسة في مصر منذ 1952 لم يكن سيئاً بذاته، فالفن جزء من الحياة العامة.

لكن السوء يكمن في تحويله من فن حر ينتقد ويحلل ويقترح، إلى أداة دعائية في يد السلطة.

الخاسر الأكبر هو الشعب المصري، الذي حُرم على مدى عقود من فن جريء يطرح أسئلة حرجة، وحُرم من ممثلين حقيقيين في البرلمان، ليُستبدلوا بوجوه مألوفة تؤدي دوراً كتبه لهُم غيرهم.

الفضيحة ليست في أن يكون الفنان سياسياً، بل في أن يتم استخدام حبه في قلوب الناس لتزيين واقع مرير، وإيهامهم بأن صوتهم مسموع، بينما الستارة مغلقة على مسرح حقيقي تتخذ فيه القرارات المصيرية بعيداً عن الأضواء.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى