
لا شك في أن الدعاية والإعلام يلعبان دوراً كبيراً في صناعة “المرشح” بشكل عام، والرئيس الأمريكي بوجه خاص،
حتى أنه قيل – بحق – إن منصب الرئيس في أمريكا يتم الترويج له كما يتم الترويج لمنتج مثل البيبسي كولا، بنفس الفنون الدعائية لخلق الطلب على المنتج، أو لجذب الأصوات إلى المرشح.
إلا أن “دونالد ترامب” يعد حالة خاصة تماماً في التاريخ الأمريكي،
فقد كان لكل من سبقوه في احتلال موقع الرئاسة أو التنافس عليه، تاريخ سياسي يستند إليه في دعايته الانتخابية، سواء أكان ذلك موقعاً تنفيذياً في الإدارة الأمريكية أو في الحكم المحلي أو في المؤسسات التشريعية بمختلف درجاتها في الولايات، أو في الكونجرس.
لقد عشت سنوات في نيويورك أوائل التسعينات من القرن الماضي،
وكان المعروف عن ترامب أنه مقاول ومقامر كبير وزائر نساء، لكنه لم يتمكن من التسلل إلى كل البيوت الأمريكية إلا من خلال حلقات تلفزيونية عام 2004 في محطة MBC، وجاء ذلك بعد مرحلة من الإخفاقات في مشروعات فاشلة وإفلاسات، ومشاكل قضائية متعددة.
كان اسم هذه الحلقات التلفزيونية “المتدرب” (The Apprentice)،
تدور حول لقاءات يجريها ترامب من قاعة مجلس الإدارة في برج ترامب الشهير في مانهاتن، حيث يوجه أسئلة للمتسابق “المتدرب”، وفي النهاية يصدر حكمه عليه، فإما أنه مقبول في عالم البزنس ويتم تعيينه فوراً في أحد مشروعات ترامب، وإما أنه فاشل، يصدر عليه ترامب الحكم بطريقته التمثيلية الخاصة:
“أنت مطرود!” – You are fired.
الواقع أن “المتدرب” الحقيقي لم يكن هو ذلك الطامح في وظيفة في إمبراطورية ترامب،
وإنما كان ترامب نفسه الذي كان يتدرب على أساليب السلطة والإخراج والسيطرة على الصورة.
لقد استردت “الكاميرا” ترامب من تجاربه الفاشلة ذلك الوقت،
ونجحت في إخفاء إخفاقاته وتجاربه الفاشلة المتراكمة، والقضايا المنظورة أمام المحاكم، وأصبحت صورته التي يتابعها الناس على الشاشة تعكس هيئة المستثمر الناجح المسيطر، المحاط بالذهب الذي يزين جدران برجه المشهور، بحيث نجحت الكاميرا بالفعل في فتح الطريق كي تتسلل “أسطورة ترامب” المتمكن الذي لا يعجزه شيء.
أسطورة مصنوعة تلفزيونيًا بالكامل، منبتة الصلة بالواقع الاقتصادي آنذاك.
ومن تابع هذه الحلقات، سيلاحظ أن ترامب كان يحتل دائماً رأس مائدة الاجتماعات،
وهو يتفحص – وبشكل مبالغ فيه – شخصيات المتسابقين أمامه، حتى ينهي أغلب المقابلات بصيحته الشهيرة وبأداء تمثيلي قائلاً:
“أنت مطرود!” – You are fired!
بالشكل الذي رسخ صورته على مر السنوات، صورة التسلط والتحكم، وكأنها إرادة تمتلك حق الحياة والموت على الآخرين، ومعها استقرت أيضاً صورة ترامب كقائد حاسم، وزعيم لا يرحم الضعفاء.
وخلال سنوات متوالية، كان ترامب “يتدرب” ويتعلم من الكاميرا ما لم يتعلمه في السياسة،
(ولن يتعلمه كما أثبتت الأيام). فقد أجاد السيطرة على عواطف المشاهدين، والمناورة باستخدام نظرات عينيه بشكل ساخر، وكذلك طبقات صوته التي يتلاعب بها، وحركاته المباغتة كي يلفت نظر المشاهدين ويؤثر فيهم.
ولكن الأهم هو أنه نجح في أن يصنع من “الصراع” مجرد “فرجة”،
ومن “القرارات” مجرد نوع من أنواع الدراما. وهكذا عندما أعلن ترامب عن نيته في الترشح، كان أغلب الأمريكيين يشعرون أنهم يعرفونه، وغلبت عليهم صورته “الأسطورية التلفزيونية” التي تصدر الأوامر، وتسيطر، وتعرف الإجابات الصحيحة التي تقود إلى الربح، بما أقنع تلك الأغلبية بأنه يستطيع إدارة “دولة” كما يدير “شركة”.
وهكذا خرج ترامب من استوديوهات التلفزيون جاهزاً للترشح لرئاسة أمريكا،
كي يكون أول رئيس أمريكي تضعه استوديوهات “واقعية” (وليست سينمائية مثل ريجان)، دون أن يعاني مثل كل من سبقوه من الرؤساء من فكر سياسي وعمل دؤوب.
مجرد طبل أجوف يدق في سموات العالم بتغريداته آناء الليل وأطراف النهار، يغزل غزله في الصباح ثم ينكثه في المساء.
وعندما يواجه الكاميرات يسترد “الممثل” الذي يعرفه، ويتوهج في الأداء، والعالم يتابعه مبهوراً أو مستاءً أو خاضعاً.
ولكن من المؤكد أن الجميع يبتهلون إلى الله ألا يدفعه الاندماج في الدور إلى الضغط على الزر النووي، ربما برغبة المخرج في إسدال الستار.
بقلم:
السفير معصوم مرزوق
مساعد وزير الخارجية الأسبق







