خريفُ إسطنبول ليس فصلًا من الفصول، بل مشهدٌ كونيّ يكتبُ الحياةَ من جديد. له رياحٌ تعرفُ طريقَها إلى الأرواح، وسماءٌ تحفرُ بالضوءِ على وجهِ الغيم معنى النهاياتِ الجميلة. ألوانُه ليست زينةً عابرة، بل اعترافاتُ الطبيعةِ بعد موسمٍ طويلٍ من الادعاء.
في هذا الخريف، تتكلّمُ المدينةُ بصوتِ الأشجار. تسقطُ الأوراقُ بكرامةٍ، كأنها بياناتُ توبةٍ عن وهمٍ قديم. تتخفّفُ الأغصانُ من أحمالها، وتعودُ إلى جوهرها الأصيل. هنا تتجلّى الحكمة: أن البقاءَ لا يُقاسُ بما نتمسّكُ به، بل بما نحسنُ وداعَه.
من يفهمُ لغاتِ الخريف يدركُ أن الأوراقَ الخاسرةَ ليست خسارة، بل خفّةٌ لازمةٌ للطيران. السقوطُ ليس هزيمة، بل درسُ توازنٍ بين ما يمضي وما يبقى. تسقطُ الذكرياتُ الثقيلةُ واحدةً تلو أُخرى، فيسمعُ القلبُ صوته الأصيلَ يعودُ حيًّا، بعد أن أرهقتهُ الضوضاء.
لا شيء يشيخُ أسرعَ من الورقةِ التي تتوهّمُ الخلود. من يظنُّ نفسَه شجرةً وهو لم يكن إلا ظلَّ ورقةٍ عالقة، يسقطُ عند أولِ نسمةِ صدق. خريفُ إسطنبول لا يرحمُ الأوراقَ المزيّفة، ولا يُبقي إلا على الفروعِ التي التصقت بالجذر حبًّا وفهمًا وانتماءً، لا نفاقًا ولا تزيينًا.
الأوراقُ التي تُنزعُ من بلوكِ النتيجة لا تعودُ إليه أبدًا. هي كالأوراقِ الملوّنةِ التي لفظها الخريفُ الماضي، تاهت في الريح، ولم يذكرها أحد. الربيعُ لا يُعادُ بقرارٍ شخصي، ومن فقدَ جذورَه لا يستعيدُ خضرتهُ بالتمنّي.
في هذا الفصل، تتكلمُ الأشجارُ بلغةٍ فلسفيةٍ صافية:
لا تكنْ ورقةً تطلبُ كلَّ شيءٍ ولا تمنحُ شيئًا.
ولا تُؤجِّلْ سقوطًا يُنقذك من الذبول.
فالسقوطُ في وقتِه ارتقاء، والبقاءُ في غيرِ أوانه انتحارٌ مؤجَّل.
ثمّة دروسٌ لا تُتلى على المنابر، بل تُهمَسُ في هدوءِ الريح. منها أن من يعرفُ حقّ «الحمدُ لله» لا يمكنُ أن يحمدَ بشرًا، ولا أن يحملَ لهم شكرًا، ولو أهدَوه الذهب. فمَن حمدَ الخالقَ عرفَ المصدرَ، ومَن التفتَ إلى المخلوقِ نسيَ المنحةَ في المانح. ذلك الذي ذهبَ بعقلِه غرورًا بوهمٍ، نسيَ ذاكرته، فلم يتعلّم من دروسِ الخريف الماضي، ولم يسأل نفسه: أين مضت تلك الأوراقُ القرمزيّةُ الجميلة، الملوّنةُ بألوانٍ حقيقيةٍ وليست مقلّدة؟
ما يسقطُ من ورقةٍ إلا يعلمُه الله، وما يغيبُ من ظلٍّ إلا لحكمةٍ في ميزانِ الغيب. السقوطُ ليس عقابًا، بل عدالةٌ من نوعٍ آخر، تطهّرُ الشجرةَ من الزيف، وتتركُ لها ما يليقُ بالبقاء: الجذر، والعصارة، والرائحةُ الأولى.
خريفُ إسطنبول لا يدرّسُ فلسفةَ الفقدِ فحسب، بل يفضحُ جهلَ الطامعين في تكرارِ ربيعٍ انقضى. هؤلاء الذين يظنّون أن الورقَ إذا صُبغَ بلونٍ جديدٍ يعودُ حيًّا، لا يعلمون أن الألوانَ المقلّدةَ لا تُخدعُ بها الريحُ، ولا تستدرجُ بها الفصول.
في نهايةِ المشهد، حين تُغلقُ الرياحُ كتابَ الشجرِ، وتخلو الأرصفةُ من صخبِ الأوراق، تدركُ إسطنبول أن الجمالَ الحقيقيَّ لا يسكنُ ما سقط، بل في ما بقيَ واقفًا على جذوره.
إنّ خريفَ إسطنبول ليس موسمًا للفقد، بل موسمٌ للوعي. موسمُ سقوطِ الورقةِ التي توهّمتْ أنها تاجٌ على شجرةٍ من ذهب، ونجاةُ الشجرةِ التي اكتفتْ بأن تكون أصلًا في الأرض.
من عرفَ الحمدَ حقًّا، لم يطلبْ شكرًا من بشرٍ؛
ومن عرفَ كيف يفقدُ برضا، عرفَ كيف يربحُ بالحياة؛
ومن فهمَ حكمةَ الخريف، لم يخشَ يومًا رياحَ التغيير.
هذه رسالة لكل الأوراق الزائفة
يابسة العطاء
قبل أن تعصف بها رياح عاتية
في خريف عاصف
هذه السطور رسالة
وربما رسائل
لم غره غرور النفس
ولم يتعلم درس
خريفات
وخرافات
سالفه
فعندما تضغط علي أنبوب الاسنان
يخرج بثقه ويسر كل المعجون
لكنك لا تملك
مهما طال حلمك
ان تعيد المعجون للانبوب
او الثقه المفقودة في القلوب







