
ليس الوفاء خُلقًا عابرًا، بل هو سِمَةُ الكبار الذين لا ينسون من أضاءوا شموع الطريق.
وليس العدل مجرّد كلمةٍ في قاموسٍ سياسيٍّ أو ثقافيّ، بل هو موقفٌ يُنصف من صنعوا الجمال بصمتٍ، وتركوا على جدران الوطن أثرًا لا يُمحى.
كلُّ وطنٍ له وجه.
ووجهُ مصر، منذ نصف قرنٍ من الفن والضوء واللون، كان فاروق حسني.
رجلٌ لم يُعلّم المصريين الرسم بالكلمات فحسب، بل علّمهم كيف يرون الجمال في ظلّ الخراب، وكيف ينهض الذوق العام حين تُرهقه السياسة ويخنقه الصخب.
من بين كل ما خلّفه من مشاريع، يظل متحف الحضارة المصرية شاهدًا خالدًا على خياله، وضميره، وإيمانه بأن مصر لا تُختصر في ماضيها فحسب، بل في قدرتها على تقديم هذا الماضي بلغة الحاضر.
هذا المتحف ليس جدارًا من حجر، بل لوحة من روح.
عرفت فاروق حسني منذ اللحظة الأولى لتعيينه وزيرًا للثقافة.
لم يكن وزيرًا من طينة الإداريين، بل من طينة الفنانين الذين تسبق رؤيتهم قراراتهم.
جمعتني به مواقف إنسانية عميقة، تركت في نفسي أثرًا لا يُمحى، وكان دائمًا صاحب القلب المفتوح والعين التي ترى قبل أن يُقال لها “انظر”.
في دائرتي الانتخابية القديمة، في قلب باب الشعرية والموسكي، تجلّت ملامح هذا الرجل الذي لم يعرف التفرقة بين الفن والناس.
سعى بنفسه إلى تجديد معالم الآثار القديمة هناك، وفتح أبوابًا كانت مغلقة أمام الضوء.
كم مرة رأيته يتنقّل بين المساجد التاريخية في تلك المنطقة القديمة، يتأمل الزخارف، ويمسح الغبار عن الحجارة كما لو كان يربّت على كتف الزمن.
كان يدرك أن ترميم المسجد ليس فقط عملاً أثريًا، بل ترميمًا لروح الأمة التي صلّت في تلك الأماكن وخلّدت فيها حروفها.
لم أنسَ يوم أن وقفنا معًا في ميدان باب الشعرية، أمام تمثال محمد عبد الوهاب الذي شارك في إنشائه وافتتاحه.
يومها قال لي بصوته الهادئ: “الفن لا يموت يا أيمن.. فقط يحتاج من يُذكّره بالحياة.”
ومن يومها عرفت أن في داخله قلبًا يُشبه نيل مصر: عميقًا، صافيًا، وأبديًّا.
في زمنٍ كانت فيه البيروقراطية تقتل الفكرة قبل أن تولد، كان فاروق حسني يزرع الأمل في كل مشروع ثقافي.
من قصر الثقافة في قرية نائية إلى متحف عالمي يليق بتاريخ مصر، كان يؤمن أن الثقافة ليست ترفًا، بل طوق نجاةٍ من الغرق في الجهل والجمود.
ولأن الإنصاف واجب، فإن لحظة افتتاح متحف الحضارة لا تكتمل إلا بوجوده في مقدّمة الصفوف.
لا مجاملة في ذلك، بل ردٌّ لدَينٍ ثقافيٍّ وأخلاقيٍّ على رجلٍ كان شريكًا في بناء المعنى قبل أن يُبنى الجدار.
مشهدًا واحدًا لــ فاروق حسني وهو يُقدِّم هذا الافتتاح سيكون رسالة للعالم، أن مصر تعرف كيف تكرّم أبناءها.
فالأوطان التي تُنصف مبدعيها تُنصف نفسها، وتؤكد أنها لا تنسى، ولا تُبدّد ذاكرتها.
لقد قدّم لمصر وجهًا ناعمًا، يليق بتاريخها الخشن حينًا، الصلب أحيانًا، لكنه ظلّ وجهًا مضيئًا في كل العصور.
ومن واجبنا اليوم أن نُعيد إليه ضوءه، لا كشكرٍ على الماضي فقط، بل كعهدٍ للمستقبل.
تاريخ فاروق حسني ليس لوحاتٍ تُعلَّق على جدران القاعات، بل هو مسيرةُ وعيٍ وثقافةٍ جعلت من الفن سلاحًا ناعمًا ضد القبح والسطحية.
كان يدرك أن الجمال هو المعركة الوحيدة التي تستحق أن تُخاض إلى النهاية.
حين يعتلي منصّة الافتتاح، سيشعر الجميع أن مصر تُصافح نفسها — تُصافح وجهها الأجمل، وتُقدّم للعالم شاهدًا على أن هذا الوطن، مهما تعاقبت عليه العصور، لا يزال وفيًّا لجماله، لأبنائه، لروحه الأولى.
وما أجمل أن يُكرَّم الإنسان في حياته، لا في رثائه.
فالتكريم بعد الرحيل اعتذار متأخر، أما التكريم في الحياة فهو احتفاء بالضوء قبل أن يخفت.
لهذا أقولها اليوم بضميرٍ وطنيٍّ نقيّ: إن من يستحق أن يُقدِّم وجه مصر في هذا اليوم الكبير، هو فاروق حسني — الفنان، الإنسان، والذاكرة التي لم تُمحَ من جدار الروح.
سيظل هذا المقال شهادة حبٍّ ووفاء، ورسالة أمانةٍ للأجيال القادمة: أن الجمال لا يصنعه الحُكم، بل تصنعه اليد التي تُحب الوطن وتُخلّد روحه في الطين واللون والحجر.
 
				 
					






